سمارة نوري

موسى وعيسى ومحمد

علي عزت بيجوفيتش – رئيس دولة البوسنة والهرسك

تُمثل اليهودية بين الاديان “هذا العالم”، فجميع أفكار ونظريات العقل اليهودي معنية بأقامة جنّة أرضية وحلم بالعدالة لابد ان تتحق الأرض، لا في العالم الآخر وانما “هنا والآن” .. فاليهود لم يتقبلوا ابدآ فكرة الخلود.

إن ممكلة “الربّ” التي كان اليهود يتنبأون بها قبل ظهور المسيح، كان “مفروضآ” انها ستتحقق على الارض، وليس في السماء، كما يؤمن الميسيحيون.

أن تاريخ اليهود هو تاريخ التطور الاقتصادي، وعلوم الذرة، وعلوم الاقتصاد السياسي، وليس من المصادفة ان تكون ألمع العلوم جميعآ وبدون أستثناء، من اليهود.

أن اليهود لم يسهموا دائمآ في الثقافة، ولكنهم كانوا دائمآ يسهمون في الحضارة، وهذا سبب هجرتهم الدائمة وتواجدهم في اي منطقة حضارية وليدة. ففي التاريخ القديم نجد مدن صور وصيدا والقدس وانطاكية والاسكندرية وروما. وفي اسبانيا الاسلامية (الاندلس)، نجد مدن قرطبة وغرناطة واشبيلية. وفي بداية عصر النهضة، نجد من امستردام وفينسيا ومارسيليا، وفي العصر الحاضر، في كل مدن العالم الكبرى وعلى الاخص المدن الامريكية.

هذه هي خطى الاقدام التي صنعت اليهود.

أن المادية اليهودية لفتت العقل الانساني خلال التاريخ اليهودي الى العالم واثارت الاهتمام بالواقع الخارجي.

أما الميسيحية فقد لفتت الروح الانسانية الى نفسها.

لايصح في الميسحية شطر الطاقة الانسانية الى اتجاهين متعاكسين: اتجاه السماء واتجاه الارض. “فلايستطيع انسان ان يخدم سيدين، فهو أما ان يكره أحدهما ويحب الآخر. انك لاتستطيع ان تخدم الله وتخدم مامون”.

*مامون: يشير في الكتابات الانجيلية الى شيطان الشهوة والمال.

ولذلك كان ظهور عيسى عليه السلام معّلم من معالم تاريخ العالم ” والتي احصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين” الانبياء، آية 91. فلأول مرة في التاريخ يتضح للبشرية الوعي الكامل بالقيمة الانسانية، ومن خلال هذا الوعي تحقق التقدم الكيفي لا التاريخي.

ولاتزال الحضارة الغربية – بالرغم من كل انحرافاتها وضلالاتها وشكوكها، تحمل خاتم التعاليم المسيحية. ففي الصراع المبدئي بين المجتمع والانسان، بين الخبز والحرية، بين الحضارة والثقافة، يجد الغرب –وهو ملتزم بالتقاليد المسيحية- نفسه منحازآ الى الاختيار الثاني.

ثم جاء الاسلام ليؤثر في العالم الدنيوي بمعنى ان يصبح معنيآ بالسياسة، الى جانب الانساني والروحاني. ولذلك يعتبر الاسلام مسيحية أُعيد تكييفها في العالم. هذا التعريف يكشف لنا مدى التشابه بين الدينين.

لقد تجنب المسيح دخول القدس لانها مدينة “الفرّيسيين” والمجادلين والكفار واصحاب الايمان السطحي، اما محمد، فقد كان يذهب الى “غار حراء” ليتعبد ويتأمل ولكنه كان يعود في كل مرة الى المدينة الكافرة “مكة” لكي يؤدي رسالته.

ومع ذلك فأن ماحدث في مكة لايمكن وصفه بأنه “الاسلام”، لان الاسلام اكتمل وبلغ ذروته في “المدينة”.

لقد كان محمد في غار حراء صائمآ متنسكآ متصوفآ حنيفآ، وكان في مكة مُبشرآ بفكرة دينية، اما في المدينة، فقد أصبح داعية الى “الفكرة الاسلامية”، فهناك وليس في مكة كانت “بداية ومصدر النظام الاسلامي الاجتماعي كله”.

وبهذا فقد مزج محمد (عليه الصلاة والسلام) بين العالم الجّواني وعالم الواقع، بين التنسك والعقل، بين التأمل والنشاط. لقد بدأ الاسلام صوفيآ واخذ يتطور حتى أصبح دولة. وهذا يعني ان الدين قد تقبل عالم الواقع واصبح “أسلامآ”.

الانسان ونفسه .. هذه هي الصلة بين محمد وبين عيسى، فبين الكتب المقدسة والنفس تشابه في الطبيعة، فالنفس والكتب المقدسة يمثل أحدهما الاخر بطريقة رمزية.

والاسلام نسخة من الانسان، ففي الاسلام تمامآ ما في الانسان، فيه تلك الومضة الالهية، وفيه تعاليم عن الواقع والظلال. القرآن كتاب واقعي، لامكان فيه لابطال الملاحم، والاسلام بدون انسان يطبقه يصعب فهمه، وقد لايكون له وجود بالمعنى الصحيح.

لم تبلغ المسيحية ابدآ الوعي التام بوحدانية الله. وكانت مهمة محمد ان يجعل الفكرة الانجيلية عن الله أكثر وضوحآ واقرب الى عقل الانسان وفكره.

في الاناجيل، الاله “أب” وفي القرآن الله رب العباد. الاله في الاناجيل محبة، وفي القرآن (جلال يستحق الحمد والثناء).

هذه الخاصية في فهم المسيحية للالوهية انقلبت فيما بعد الى سلسلة من الصور المختلطة، وضحت بالوحدانية في سبيل الثالوث .. مثل هذا التطوير غير ممكن في الاسلام، فالبرغم من كل النكبات التاريخية التي مر بها الاسلام، ظل “أنقى أديان التوحيد”.

أن الاعتقادين الاساسين في الاسلام: “الله اكبر” و “لا اله الا الله” هما في الوقت نفسه اعظم القوى الثورية في الاسلام، يرى سيد قطب بحق، انهما ثورة ضد السلطة الدنيوية التي تغتصب الحق الالهي في حكم العالم. انهما يعنيان: انتزاع السلطة من الكهان ومن زعماء القبائل والاغنياء والحكام، واعادتها الى الله.

لم يتقبل المسيحيون فكرة أن يظل الانسان الكامل “أنسانآ”، فأستنتجوا فكرة الاله- الانسان، واعتبروا عيسى ابنآ لله. ولكن محمد ظل انسانآ فقط، لقد اعطى محمد(ص) المثل الاعلى للانسان والجندي في الوقت نفسه، اما عيسى (عليه السلام)، فقد خلّف أنطباعآ ملائكيآ.

الاسلام لايعرف كتابات دينية (لاهوتية)، كما انه لايعرف كتابات دنيوية مجردة. فكل مفكر إسلامي عالِمُ دين، كما ان كل حركة أسلامية صحيحة هي حركة سياسية.

ويمكن استخلاص نتائج مماثلة من المقارنة بين المسجد والكنيسة، فالمسجد مكان للناس اما الكنيسة فيه “معبد للرب”، في المسجد يسود جو من العقلانية، وفي الكنيسة جو من الصوفية، المسجد بؤرة نشاط دائم وقريب من السوق في قلب المناطق المعمورة بالسكان، اما الكنيسة فتبدو اقل التحامآ ببيئتها.

يميل التصميم المعماري للكنيسة الى الصمت والظلام والارتفاع، أشارة الى “عالم آخر”، عندما يدخل الناس يتركون خارجها كل اهتمام بالدنيا كأنهم داخلون الى عالم آخر. أما المسجد، فمن المفروض أن يناقش الناس فيه بعد انتهائهم من الصلاة هموم دنياهم. هذا هو الفرق.

أن الاسلام لايعترف بالصفوة، رهبانآ كانوا او قدّيسين، ولايوجد فيه برنامجان: واحد للمختارين واخر للناس العاديين، ولكنه اعلان لمبدأ ديمقراطي.

لقد جمع الاسلام في تعاليمه بين السماء والارض. تستطيع الاناجيل ان تقول: “عش كما تحيا الزنابق في الحقول”، ولكن القرآن يحث الناس على الكدح والسعي وراء العيش فيقول: “وجعلنا النهار معاشآ”.

يؤكد القرآن أن الله خلق الانسان ليكون سيدآ في الارض (خليفة)، وان الانسان يمكنه تسخير الطبيعة والعالم خلال المعرفة والعمل فقط، أي بالعلم والفعل. من هذه الحقيقة، وبتركيز الاسلام على القانون والعدالة، يبرهن الاسلام على انه لايستهدف الثقافة فقط وانما يسعى لبناء حضارة ايضآ.

ويستدل على موقف الاسلام تجاه الحضارة من خلال اهتمامه القراءة والكتابة بأعتبارهما أقوى محرك للحضارة.

لقد انشطرت وحدة الاسلام على يد أناس قصروا الاسلام على جانبه الديني المجرد، فأهدروا وحدته وهي خاصيته التي يتفرد بها عن سائر الاديان، لقد اختزلوا الاسلام الى صوفية مجردة، فتدهورت احوال المسلمين.

ذلك لان المسلمين عندما يضعف نشاطهم ويهملون دروهم في هذا العالم ويتوقفون عن التفاعل معه، تصبح الدولة الاسلامية كأي دولة أخرى، ويصبح تأثير الجانب الديني في الاسلام كتأثير اي دين آخر، وتصبح الدولة قوة عريانة لاتخدم الانفسها.

في حين يبدأ الدين الخامل يجرّ المجتمع نحو السلبية والتخلف، ويشكل الملوك والامراء والعلماء الملحدون، ورجال الكهنوت وفرق الدراويش والصوفية، والشعراء السكارى، يشكلون جميعآ الوجه الخارجي للانشطار الداخلي الذي أصاب الاسلام.

أن الفلسفة الصوفية والمذاهب الباطنية تمثل نمطآ من اكثر الانماط انحرافآ، ولذلك يمكن ان نطلق عليها “نصرنة” الاسلام، انها انتكاس بالاسلام من رسالة محمد (ص) الى عيسى (عليه السلام).

ولاسباب تاريخية ومواجهات سياسية بين المسيحية والاسلام، كثيرآ ماتجاهل الغرب القرابه بين الدينين، ولو أستطاع الغرب التأمل بصدق في هذه الحقيقة واستنبط منها النتائج التي تترتب عليها، فأن العلاقة بين هذين الدينين العظيمين قد تتوجه في المستقبل الى ابعاد جديدة كل الجدة.

“وقولوا آمنا بالذي أُنزل الينا وأُنزل اليكم والاهنا والاهكم واحد ونحن له مسلمون” العنكبوت، آية 46

المقال السابق: الاسلام بين الشرق والغرب 1 – داروين .. وتطور الانسان

المقال السابق: الاسلام بين الشرق والغرب 2- الفن والاخلاق

المقال السابق: الاسلام بين الشرق والغرب 3 – الطوبيا او المجتمع المثالي

المقال السابق: الاسلام بين الشرق والغرب 4 – الأسرة

المقال التالي: الاسلام بين الشرق والغرب 6 – نظرة أخيرة – التسليم لله