سمارة نوري

الفن والاخلاق

علي عزت بيجوفيتش – رئيس دولة البوسنة والهرسك

الفن، اذا ما استبعدنا منه الغثاء، فهو مقدس وفوق-عقلي.

أن مايخبرنا به الفن والطريقة التي يخبرنا بها شئ يفوق قدرتنا على التصديق، كأننا بأزاء رسالة دينية.

انظر الى قطعة من فن الارابيسك الاسلامي في مدخل فناء قصر الحمراء بغرناطة، او لوحة يوم الحساب لمايكل انجلو، او لوحة جيرنيكا لبيكاسو، او استمع الى موسيقى دبوسي في استشهاد القديس سباستيان ، او الى اغنية روحية زنجية، ولسوف تجرب شيئآ غامضآ مُلغزآ فوق المنطق والمعقول كما تشعر في الصلاة.

هناك تناقض حاد في موضوع الاخلاق تأرجحها بين العلم والدين، من الناحية التاريخية، يعتبر الفكر الاخلاقي من اقدم الافكار الانسانية، ولايسبقه سوى الفكر الديني الذي هو بقدم الانسان نفسه، وقد التحم الفكران معآ خلال التاريخ لتشابك الفكر الديني والاخلاقي.

ثم ظهر مايسمى بالاخلاق العلمانية التي تؤكد على استقلالية الاخلاق عن الدين، ومع ذلك فأنها تكشف عن فكر او نشاط اخلاقي ينحو بطبيعته نحو الدين ويتطابق معه. ولذلك نجد النزعة العلمانية الحريصة على اتخاذ موقف مستقل عن الدين تتجه في سيرها على طول الخط نحو الدين، بطريقة لاشعورية.

لهذا ممكن ان نتصور رجل دين لااخلاق له، وبالعكس. فالدين نوع من المعرفة، والاخلاق هي الحياة التي يحياها الانسان وفقآ لهذه المعرفة.

وهنا يظهر الاختلاف بين المعرفة والممارسة. فالدين اجابة على سؤال: كيف تفكر؟ وكيف تؤمن؟ بينما الاخلاق اجابة على سؤال: كيف تحيا؟ وكيف تتصرف؟

ولازال اغلب الناس لاتفرق بين الدين والعمل الصالح (الاخلاق)، بينما تأمر الآية (.. الذين آمنوا وعملوا الصالحات ..) في اكثر من خمسين مرة في القرآن، فأنها تؤكد على وجوب سير هذين الامرين معآ مع وجود فرق بينهما.

ان ما امتازت به دول الغرب من أخلاق، هو سلوك اجتماعي وليس سلوك اخلاقي. والفرق واضح:

فالحافز وراء السلوك الاجتماعي هو المصلحة، بعكس السلوك الاخلاقي الذي لايقوم على المصلحة. أن السلوك بأسم الانانية شىء، والسلوك بأسم الواجب شىء آخر، فالاول يستند الى المصلحة والحاجة والنظام والعقل، اما الثاني فهو ممكن فقط بأسم الله.

أن السلوك الجماعي هو من صناعة الذكاء وليس فيضآ من القلب والروح. وهو يؤدي الى تحقيق اكبر مصلحة شخصية لاكبر عدد من الناس في المجتمع، وهذا مايطلقون عليه ” المبدأ الاعظم” مؤلف هذه المعادلة الشهيرة هو الفيلسوف المادي جيرمي بنتام.

ان مايوفره الذكاء في حياة الانسان بصورة غير كاملة، توفرها الغريزة كاملآ في المملكة الحيوانية، والمثل على ذلك السلوك الاجتماعي للنمل والنحل والحيوانات البرية الاخرى.

وهذه النماذج التي تقدمها الحيوانات في سلوكها الاجتماعي، تبرهن لنا على اننا لانواجه ظاهرة اخلاقية على الاطلاق، انما هو “سلوك أجتماعي”

من هذا التشوش وعدم الثبات تنشأ الكوميديا الانسانية، ليس هناك علاقة تلقائية بين عقيدتنا وسلوكنا، فسلوكنا ليس بالضرورة من اختيارنا الواعي ولاهو قاصر عليه. انه على الارجح نتيجة التنشئة والتربية التي تشكلت في مرحلة الطفولة اكثر منه نيتجة للمعتقدات الفلسفية والسياسة التي تأتي في مراحل متأخرة من الحياة.

وهنا تبرز ظاهرتين: الملحدون الاخلاقيون، والمؤمنون الذين لااخلاق لهم.

أن الوصايا الاخلاقية الجوهرية لاتتأثر بالزمان والمكان او الظروف الاجتماعية .. بعض هذه المبادىء تشتمل على الآتي:

قل الحق، تجنب الكراهية، كن بسيطآ متواضعآ، أنظر الى الاخرين على انهم مثلك، تطلع الى الحرية، دافع عن حقوقك وحقوق الاخرين، أسع لكسب عيشك، أحترم عمل الاخرين، احترم والديك وكبار السن، اوف بوعودك والتزاماتك، أحم الضعيف، تودد الى الناس، لاتسعد بشقاء الناس وفشلهم، لاتحسد الاخرين على ماأصابهم من نعمة او نجاح، لاتكن مغرورآ ولامتكبرآ، كن صابرآ عند المرض، لاتتملق الاقوياء، ولاتقهر الضعفاء، لاتحترم الناس بسبب بشرتهم او لثرائهم او لاصلهم، ليكن لك رأي خاص بك، كن معتدلآ في تعاطي المسرات، لاتكن انانيآ .. الخ.

فهل تتغير هذه المبادىء وفقآ لظروف النظام الاقتصادي؟

أن تتأمل، وأن تتعلم (أو تدرس) نشاطين مختلفين، او نوعين من الطاقة يستهدفان اتجاهين متعارضين.

أدى الاول ببيتهوفن الى ابداع السمفونية التاسعة، وأدى الثاني بنيوتن الى اكتشاف قوانين الجاذبية والحركة.

أن التعارض بين التأمل والتعلم يكرر نفسه في التعارض بين الانسان والعالم، بين الروح والذكاء، بين الحضارة والثقافة.

ينتمي الفن لعالم الصدق الجُوّاني وليس لعالم الواقع البرّأني.

تختلف الثقافة الشعبية عن الثقافة الجماهيرية في أنها ثقافة أصيلة، حية، ومباشرة. وهي بريئة من البهرجة ومن الاعمال الادبية والفنية الهابطة، والتي هي نتاج المدن الكبرى.

يقول البروفسور هوريكاوا: إن التلفزيون قد حّل محل الأدب والتفكير، وبالتالي استطاع أن يقلص النشاط الفكري. إنه يقدم حلولآ جاهزة لجميع مشكلات الحياة.

أصبح التلفزيون تهديدآ للحرية الانسانية، اكثر خطرآ من البوليس، والسجون، ومعسكرات الاعتقال السياسي.

لقد أثبت علم نفس الجماهير، كما أكدت الخبرة، انه من الممكن التأثير على الناس من خلال التكرار المُلحّ لاقناعهم بخرافات لاعلاقة لها بالواقع.

تتسم الثقافة الجماهيرية بحالة عقلية اشير اليها بأسم “الصبيانية”. فقد لوحظ أن الانسان المعاصر يتصرف بطريقة طفولية – بالمعنى السلبي للكلمة، اي بطريقة تتفق مع المتسوى العقلي للمراهقة: تسليات مبتذلة، غياب روح الفكاهة الاصلية، الحاجة الى أحداث مثيرة ومشاعر قوية، الميل الى الشعارات الرنّانة والاستعراضات الجماهيرية، والتعبير عن الحب والكراهية بأسلوب مُبالغ فيه، اللوم والمدح المبالغ فيهما، وغير ذلك من العواطف الجماهيرية القاسية. يوهان هويزنجا

أن اللوحة الفنية بشكل ما، هي نوع من أنواع الشعائر مرسومة على قماش، كما أن السمفونية شعائر لحنية.

إذا لم يكن هناك روح للانسان، فلم نحرص على أن يكون للمدن روحآ!؟

تملك الثقافة الفن، وتملك الحضارة العلم او بتعبير أدق علم الاجتماع.

والاختلاف بين المدخلين يعكس الانقسام الاساسي للعالم، كما ان البحث فيهما يتجه الى اتجاهين متضادين: الاول نحو الانسان كشخصية فردية، والثاني نحو الانسان كعضو في المجتمع.

يريد علم الاجتماع ان يكتشف العالم والمشترك، اما الفن فيريد ان يكتشف الخاص والفردي.

يتحدث الفن عن الشخصية، ويتحدث الدين عن النفس، ولااختلاف بينهما، وانما الاختلاف في طريقة التعبير عن الفكرة نفسها.

أن الفن ليس في العمل، إنما في الحياة الجُوّانية الشخصية للفنان.

فالعمل الفني هو الفنان نفسه ويعكس حياته الاخلاقية، ولذلك فأننا عادة ما نعرّف العمل بصاحبه.

يقول شيريكو – فنان أيطالي: يوجد انسان واحد هو الذي يستطيع ان يفهم لوحاتي، وهو أنا.

فكل عمل فني هو، بمعنى من المعاني، سيرة ذاتية.

لايوجد تدريبات او قوانين ولاتأثيرات خارجية يمكن بها اصلاح الانسان؟ فكل ماتستطيعه هذه الاشياء هو ان تغير السلوك فحسب.

وهذا هو السبب في أن التدريب لاتأثير له على الموقف الاخلاقي للانسان. تستطيع ان تدرب جنديآ ان يكون خشنآ، ماهرآ، قويآ، ولكنك لاتستطيع ان تدربه لكي يكون مخلصآ، شريفآ، متحمسآ، شجاعآ .. فهذه صفات روحية

لايمكن فرض عقيدة بالقوة او الارهاب او الضغط.

ولذلك فأن اي تنشئة حقيقية هي في جوهرها تنشئة ذاتية، وهي مناقضة للتدريب.

ليست عظمة الانسان اساسآ في اعماله الخيره، وانما في قدرته على الاختيار.

ان التدريب، حتى ولو كان يفرض السلوك الصحيح، هو في اساسه لااخلاقي ولاانساني.

يرفض الانسان التقدم المتاح اذا كان عليه ن يحصل عليها بوسائل تحطّ من انسانيته. ولكن هل سيرفضه غدآ .. وهل سيرفضه دائمآ؟

ان القيم التي تسمو بالحياة الحيوانية الى مستوى الحياة الانسانية تبقى مجهولة وغير مفهومة بدون الدين.

ولذلك فأن اي بعث ديني يبدأ بيقظة دينية، فالاخلاق انما هي دين تحول الى قواعد وسلوك، يعني تحول الى مواقف انسانية تجاه الاخرين وفقآ لحقيقة الوجود الالهي.

تمنح البيولوجيا للانسان التقدم على حساب روحه ونبله الانساني، ويؤدي الالحاد الى أنكار الاخلاق.

قد يصل انسان داروين الى اعلى درجات الكمال البيولوجي، ولكنه يظل محرومآ من الصفات الانسانية، والسموّ الانساني.

فالدين مدخل الى عالم آخر متفوق على هذا العالم، والاخلاق هي معناه.

المقال السابق: الاسلام بين الشرق والغرب 1 – داروين .. وتطور الانسان

المقال التالي: الاسلام بين الشرق والغرب 3 – الطوبيا او المجتمع المثالي