أن الخصائص التي ذكرها ابن خلدون عن البداوة والحضارة ليست من الطبائع البشرية الثابتة، إنها نتاج الاحوال التي عاش فيها الناس، فلو حدث مثلآ تبدل جغرافي في البادية مما يجعل أحوالها تتغير عما كانت عليه، لاضطر البدو من جراء ذلك الى التخلق بخصائص اخرى.

وعلى هذا الاساس كانت نظرته الى الدولة الاموية مختلفة عن نظرة أكثر المؤرخين المسلمين، فالاغلبية كانوا خاضعين لقوانين المنطق القديم، ولهذا انقسموا في تقديرهم للدولة الاموية الى فريقين.

وجاء ابن خلدون فأخذ ينظر الى الدولة الاموية باعتبارها لا تختلف عن غيرها من الدول، فهي بدأت حسنة عندما كانت قريبة من روح الدين في أول امرها ثم أخذت تسوء تدريجيآ عندما أنغمس خلفاؤها في الترف جيلآ بعد جيل حتى انتهى الامر بهم أخيرآ الى الانهيار، وهذا ما حدث للدولة العباسية والفاطمية والايوبية وغيرها.

الا أنه فطن الى العيب الكامن في التصنيف الثنائي من الناحية الواقعية عندما صنف الناس الى صنفين هما البدو الحضر، ولكنه عندما شرح أوضاعهم أشار الى أنهم يقعون فيها على درجات متفاوته تبعآ لمقدار ظهور خصائص البداوة او الحضارة فيهم شدة وضعفآ.

طاعة السلطان

كاد فقهاء أهل السّنة في عصورهم المتأخرة يجمعون على وجوب طاعة السلطان وعلى تحريم الخروج عليه ولو كان فاسقآ جائرآ.

وقد وردت أحاديث كثيرة تندد بالخروج على السلطان وتعدّه عصيانآ لامر الله وتفريفآ لشمل الأمة.

والظاهر أن بعض أئمة الاسلام في العصر الاول لم يلتزموا بهذه الاحاديث التزامآ حرفيآ، فكان منهم من يرى الثورة على السلطان الظالم استنادآ على الحديث النبوي القائل: لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق.

كذلك كانوا يستندون على ما جاء في الاسلام من مبدأ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد كان لهذا المبدأ في صدر الاسلام اثرآ بالغآ إذ كان المسلم يشعر بوجوب الكفاح، عند القدرة عليه، ضد المنكر الذي يظهر على يد الحكّام، وكان كثير من أئمة الفقه يؤيدونهم في ذلك.

مهما يكن الحال فنحن نستطيع أن نستنتج أن الخروج على السلطان الظالم كان أمرآ مقبولآ الى حد ما في صدر الاسلام، ولهذا وجدنا ذلك العهد يعج بالثورات والدعوات المختلفة. ولكن هذه الثورات أخذت تقل شيئآ فشيئآ بمرور الزمن حتى وصل الحال بالفقهاء أخيرآ الى ما يشبه الاجماع على تحريم الثورة وعلى وجوب طاعة ولي الامر مهما كان ظالمآ او فاسقآ.

وهنا يأتي ابن خلدون فيبدي رأيآ يخالف فيه الجميع.

إنه يرى أن المسألة ليست مسألة تحريم او جواز من الوجهة النظرية المجردة، بل هي مسألة واقعية اجتماعية تتصل بالعصبية.

فمن كانت لديه العصبية الكافية التي تمكنه من الثورة والتغلب على السلطان جاز له الخروج عليه، اما من كان ضعيفآ من الناحية الاجتماعية وليس له عصبية كافية تدعمه في خروجه، فالاولى به الجلوس في بيته والتجنب عن إثارة الفتن والفوضى وسفك الدماء.

ينظر ابن خلدون الى العصبية بأنها شرطآ أساسيآ لتأسيس الدولة وقيام الخلافة، وأنها أهم القوانين الاجتماعية التي يجب أن يتبعها كل ذي شريعة او دعوة دينية.

وتجابه ابن خلدون في هذا الصدد مشكلة كبيرة هي أن الشرع الاسلامي ذمَّ العصبية ونهى عنها وعدّها من خصال الجاهلية، فكيف يجوز اذن لابن خلدون أن يجعل العصبية اساس الشرائع بينما هي مذمومة ومنهيّ عنها في الشريعة الاسلامية؟

يلجأ ابن خلدون الى منطقه المادي لمعالجة هذه المشكلة، فهو يهتم بمحتوى الامور ويهمل صورتها الذهنية المجردة، ففي رأي ابن خلدون أن العصبية وغيرها من أحوال الدّنيا لايجوز أن نحكم عليها حكمآ كليآ مجردآ ونغفل عن محتواها الواقعي.

أن ابن خلدون يشبه العصبية من هذه الناحية بالملك والغضب والشهوة، فهي أمور نهى الشرع عنها وذمَّها بينما هي من مستلزمات الحياة البشرية، فالانسان من غير شهوة لايتم بقاءه وإنما نهى الشرع عن استعمالها في غير وجهها المشروع، ومثل هذا يمكن أن يقال عن العصبية، فهي كثيرآ ما تكون وسيلة لنصر الدين وإقامة الحق، وقد اعتمد عليها النبي في حماية الاسلام وفي نصره، والعصبية لاتكون مذمومة الا عند استعمالها في الباطل وفي تفريق كلمة الامة.

سلسلة منطق ابن خلدون

المصدر: كتاب منطق ابن خلدون – د. علي الوردي