ليست دخيلة البارحة، صحبة عتيقة ومشوار طويل.

أتحاشاها .. كنت دومآ أتحاشاها وأصم أذنيّ عن ندائها.

وكلما غررت بي وأستجبت لها مزقت حروفها لكي لا ترغمني على الانصياع.

لفترة طويلة ونحن بين مد وجزر .. الكتابة وسلة المهملات.

أرقتني بألحاحها وتدخلها السافر في شؤوني في الوقت الذي تختاره رغمآ عني.

ثم كانت كلمات الكاتبة المبدعة سلام خياط ردآ بليغآ لمشكلتي مع الكتابة، قرأت المقطع مرات ومرات لاتملص منه، وكلما قرأته أكثر ازددت يقينآ بأنها تعنيني .. أنها تعنيني.

تقول:

“عندما يلاحقك هاجس الخلق، حتى لكأن لاهاجس سواه. وتقض مضجعك آلام الانسان، حتى لكأن وخزها شوك وإبر نحل. حين تقع تحت حوافر الغربة وأنت بين أهلك وأقرانك، حينما تسافر دون أن تغادر مكانك، وتقيم فيه وأنت مرتحل عنه.
حين تزورك الشمس في يوم غائم وتظل لاتبرح. حين تنسى نفحة عطر بين حواسك وتبقى – رغم عصف الريح – لاتتبدد، حين يهسهس صدى همسة بين كلّك وبعضك، لايخفت ولايختفي، حينما، حينما، حينما …
فأعلم أن حدثآ جللآ واقع لا محالة، وأن وليدآ غضآ على وشك أن يرى النور، وأنه سيقلب حياتك رأسآ على عقب، فما تلك الاشارات الالهية الا علائم من علامات المخاض – رجلآ كنت أو امرأة – وماعليك الا الترقب وأنتظار اللحظة .. ولادتك أنت في الكلمة ككاتب، وولادة الكلمة فيك كمخلوق”.

قررت أن أتصالح معها فامسكت القلم فلم أستطع أن أخط حرفآ واحدآ .. أنتظرت، حاولت مرارآ فلم أفلح!.

ثم ما ألبث أن أضع رأسي على وسادتي حتى تتزاحم الكلمات في رأسي فأتيه في سحابة من كلمات وجمل غاية في الجمال، ليست لي وليست لاحد، ولا أعلم من أين مصدرها!!.

فشلت كل المحاولات لأخمادها ولم تنجح الا طريقة واحدة بأن أرميها كلها على الورق لأفرغ رأسي من ضجيجها.

وكانت هذه ولادتي في الكلمة.

أدركت بعدها أن القلم وسيلة عاجزة وأنه لايستطيع التدوين أن لم تنطقه الروح.

من تلك الروح تكتسب الكلمات قدسيتها وشرعيتها في التحليق وأقتحام الابواب والاعماق والقلوب.

حروف ميتة تترجم النفس بترانيم موسيقية وتراكيب لغوية فتسري فيها الحرارة وتدب فيها الحياة لتكون مخلوقآ جديدآ.

الكلمة تركيب كيمياوي معقد قد تنفجر بركانآ اذا ضمت لكلمة اخرى او تصير نبعآ او صرحأ، كل ماعلينا أن نشحنها بالقوة الدفينه التي تنبع من الداخل بعفوية وبلا تكلف.

قد تنهمر كالمطر في غمرة نزهة او وسط أجتماع او في داخل السيارة، فتهشها راغبآ عنها متملصآ من مداعبتها، وحين تخلو الى نفسك وتحاول أستدعائها ستجد أن الوابل الذي أنهمر عليك قد تبخر وما من أثر لأي حرف!.

أنتظر حتى تشعر بالجوع والالم الذي سيجعلك تتحدث.

وكما أن للالم تأثير في الكلمة فأن للسلام والجمال والموسيقى والاختلاط بالناس والاحساس بالكون سحرآ يجعل الكلمات تتراقص كالفراشات في ربيع مشمس.

أغلب القراء هم كتاب في العادة وكأن العدوى تنتقل من المؤلف الى القارئ في دورة لاتنتهي .. هناك من يستطيع أن يحفزك ويستخرج من اللاوعي ما كنت تعتقد أنك حذفته .. فتقف أمام كلمة او جملة تشعر بأن المؤلف قد صاغها لك وحدك فتفجر فيك كلامآ قد لايكون بالضرورة مرتبطآ بما قرأت وبعيدآ لاصلة له البته عن موضوع الكتاب.

في أعماق كل انسان كاتب يخفي تحت جوانحه قصص وحكايا ومواويل ولكن قليل من يواتيه الحظ او الصدفة او كلاها لاخراجها من مكنونات الصدر الى النور والهواء وعيون القراء.

المبدع الحقيقي يختلف عمن سواه بما يجول في أعماقه من خلجات وما يجيش في صدره من حرائق والرغبه في الخلق والنزوع نحو الجمال والعدالة والتغيير والتصحيح والتفاعل والدفاع عن الحق ونشر السلام وتجميل وجه الكون بالكلمات.

وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام في الكتابة ” قيدوا العلم بالكتاب”.

وجاء ايضآ في قول المؤيد “الكتابة أشرف مناصب الدنيا بعد الخلافة اليها ينتهي الفضل وعندها تقف الرغبة”.

أترك قلمك حرآ بلا قيود ولا تفرض عليه أحكام المحيط وأعرافه .. أطلق له العنان ليسرح في غياهب الحاضر والماضي، يغوص في الاتراح والافراح ليصل خطابك بسيطآ قويآ مبدعآ.

في كل كلمة تتجلى شخصيتك وبصمتك وأيقاعك الذاتي.

أستجب لها أن دعتك ولاتهرب كما فعلت أنا .. ستكون أجمل وليمة يمكن أن تحضرها.