سمارا نوري

لكي نفهم المنطق عند الفلاسفة العرب والمنطق في العلم الحديث لابد أن نتطرق الى المنطق القديم اوما يعرف بالمنطق الارسطي.

ويجدر الاشارة هنا الى أن هذا المنطق كان ثورة تقدمية في تاريخ الفكر البشري وأول محاولة لتنظيم الفكر ووضع قواعد له.

نشأت لاول مرة في التاريخ عند الاغريق القدماء يوم كان التفكير الخرافي (الديني – السحري) مسيطرآ على الاذهان، ومن هنا يصح القول بأن المنطق الارسطي كان إنجازآ رائعآ في زمانه حارب الخرافات ودفع الناس نحو الاعتماد على العقل.

أهم صفات هذا المنطق، الاول انه منطق صوري والثاني انه منطق استنباطي.

المنطق الصوري

حين يوصف المنطق الارسطي بأنه صوري يقصد بذلك أنه يهتم بصورة الشيء ويهمل مادته.

تطبيق على هذه الصفة ما جاء في الهندسة حيث يهتم المهندسون بالشكل الذي تظهر فيه الاشياء كالهرم، المخروط، الاسطوانة، المثلث، المستطيل، الدائرة ولايبالون بالمادة التي تتكون منها هذه الاشكال.

ولما رأى المناطقة نجاح منطقهم في ميدان الهندسة او غيرها، ظنوا أنهم سينتجحون كذلك في الميادين الفكرية والاخلاقية والنفسية وغيرها.

فهم اذا بحثوا في العدل مثلآ تصوروه شيئآ قائمآ بذاته له صفات ثابتة كالهرم او المثلث، ويأخذون البحث فيه والمناقشة حولة كما هو في صورته المجردة دون النظر الى محتواه الاجتماعي والوقائع الجزئية التي تتغير بتغير الظروف المحيطة بها.

المنطق الاستنباطي

اي انه يبدآ على مقدمات عامة لاستنباط النتيجة وغالبآ ما يعد هذه المقدمات العامة بديهيات ثابتة لايجوز الشك فيها ولاتحتاج الى برهان.

مثل ذلك الآراء حول دوران الارض التي تبين لاحقآ بأنها ليست مسطحة كما كان بديهيآ، وهكذا بدأت البديهيات تتهاوى الواحدة بعد الاخرى تبعآ لتقدم العلم والحضارة.

مما يلفت النظر أن القياس المنطقي أصبح في القرون الوسطى مطية في سبيل الاهواء والعقائد المذهبية، فكل من يريد أن يبرهن على صحة مذهب او رأي فليس عليه الا أن يبحث في مقدمة كبرى تصلح لأستنباط الرأي او المذهب عنها.

يتضح هذا في ما حدث بين الفرق الاسلامية من جدال عنيف، فكانت كل فرقة تعتمد في رأيها على آيات قرآنية او أحاديث نبوية حيث تجعلها مقدمات لقياس المنطق وبهذا تكون الحرب بينهما سجالآ لاغالب فيها ولامغلوب.

ولهذا وجدنا كل فرقة من الفرق المتنازعة تأخذ من الاحاديث او الآيات ما يلائم مقاصدها وينسجم مع النتيجة التي تريدها.

كانت الفلسفة طوال القرون الوسطى تقوم على أساس خطأ لايمكن أن تؤدي الى علم جديد فقد أتخذت القياس المنطقي سبيلآ لتأييد المذاهب والآراء التي مهما أمعنت في البحث والاستنتاج فهي محصورة في حدود المقدمات التي سلمت بها في بادىء الامر.

يعد الفارابي والرازي وابن رشد من ابرز علماء العرب اللذين أنتهجوا المنطق الارسطي.

مثلآ ما فعل الفارابي في مدينته الفاضلة، فهو يضع شروط صلاحها وسعادتها بصلاح صفات رئيسها وهي في الحقيقة ليست سوى خيال قائم على أساس غير واقعي.

للمنطق الأرسطي ثلاثة مباديء أساسية هي:

مبدأ العقلانية
مبدأ السببية
مبدأ الماهية

مبدأ العقلانية: الثقة المطلقة بالعقل ومقدرته على اكتشاف الحقيقة وأنكار الحس والمحسوسات.

تستنكف هذه الفلسفة من النزول الى مستوى الامور المحسوسة لاستقراء الحقائق كما يفعل علماء العصر الحديث ويكتفون بالتفكير المجرد واستنباط النتائج المطلوبة.

مهما يكن الحال، فأن الفلاسفة العقلانيين كانوا في مختلف أطوارهم يستهينون بأمر الحس ولا سبيل للحقيقة الا العقل على شرط أن لا يستعين في ذلك بالحس على أي وجه من الوجوه.

مبدأ السببية: او ما يسمى بمبدأ العلية، ومعناه أن جميع حوادث الكون تخضع لقانون صارم هو تعاقب السبب والنتيجة فالحوادث لاتقع أعتباطآ او من جراء إرادة واعية.

أن العلم الحديث لا ينكر الوقائع لمجرد جهله بأسبابها، حيث تكون مجهولة في بعض الاحيان او خفية او لم يتم أكتشافها بعد.

لكن بعض المتعلمين ممن يعتنقون مبدأ السببية يرفضون هذا الرأي لانهم أعتادوا تكذيب أي أمر لاتستطيع عقولهم تعليله.

مبدأ الماهية: يقول بأن للشيء ماهية ثابتة لايمكن أن تتغير او تتناقض مع نفسها،مقارنة بمنطق العلم الحديث الذي يعتبر الكون كله في صيرورة دائبة وتغير مستمر ونحن لانستطيع أن نفهم الاشياء فهمآ واقعيآ الا إذا نظرنا اليها بمنطار التغيير والصيرورة.

يمكن القول إن من أعظم الفلاسفة الذين ساهموا في إنشاء منطق الصيرورة الحديث هو هيجل، فقد كان رأيه أن التناقض أصيل في طبيعة الاشياء.

وجاء من بعد هيجل داروين بنطريته المشهورة في التطور، وبذلك كملت الصورة في الاذهان، حيث لم تبق فيها أهمية للحقائق الثابتة المطلقة التي كان يتغنى بها المناطقة القدماء.

وكان لهذا التحول في المنطق أثرآ كبيرآ في نشوء علم الاجتماع، فالظواهر الاجتماعية ليست ثابتة ولا مطلقة، والناس لا يمكن أن يتفقوا على رأي واحد في ذلك نظرآ لاختلاف مصالحهم وعواطفهم وتقاليدهم وعقدهم النفسية.

على هذا المنوال تسير الحياة الاجتماعية.

سلسلة منطق ابن خلدون

المصدر: كتاب منطق ابن خلدون – د.علي الوردي