نفس المنظر كل يوم ،، مئات المكعبات الكونكريتية تتباين أمامي في أحجامها وأطوالها وتبدو كأنها بلون واحد تتخللها أشجار كثيفة هنا وهناك تبدو هي الاخرى وكأنها جامدة مثل الكونكريت الذي يجاورها.

ثم على الطرف الايسر يمتد البحر، وبالرغم من الالفة والاعتياد يبقى هناك سر وسحر في الماء لايمكن تجاوزه او النظر اليه بجمود.

وفي لحظة تأمل في ذلك المشهد الروتيني وجدتني أنظر الى لوحة أخرى تفور بالحياة، بعيدة كل البعد عن السكون والصمت الذي يتراءى لي.

داخل تلك الثكنات الاسمنتية هناك عشرات ومئات من القصص في كل بيت وشارع وحارة وبارك، في كل ركن هناك شخص نائم وآخر يأكل وآخر سارح وآخر يئن ويتلوى والاف الحالات والاحوال ليس بعدد البشر فحسب وإنما عدد ما حولها من الشجر والجماد والحيوان وكل ماهو موجود بلا أستثناء يعزف بتناغم او نشاز في تلك السمفونية الضخمة التي يقودها اله واحد.

ثم أفقت من شرودي ورأيت أن هذه السمفونية تمتد ابعد بكثير من نظراتي وتأملاتي الى بلاد بعيدة وقارات ومحيطات وغابات وأحياء مهجورة ومدن مشهوره ومطارات ومعابد ومجرات كلها تدور وتعزف وتنهمك في العزف ليلآ نهارآ شرقآ وغربآ يقودها نفس الاله لا يتغير ولا يغيب ولا يتعب ولا يُدرك.

وشتانا ما بين سمفونية الحياة والسمفونية التي أحضرها على المسارح الشهيرة والتي غالبآ ما تجتذب شريحة معينة من المجتمع.

على خشبة المسرح ينتظم عدد هائل من العازفين والالآت الموسيقية المتباينة في شكلها وحجمها وتردداتها وأصواتها وخلف كل آلة يجلس عازف محترف كأنهم روبوتات آلية يتحكم بهم جميعآ المايسترو او قائد الفرقة بأشارات تبدو هزلية، من دون أن يرتد لاحد منهم طرف عن اشاراته العجيبة.

في النهاية يقدم المايسترو وفرفته مقطوعة موسيقية متناغمة تطرب لها الاسماع والنفوس ويصفق لهم الجمهور وقوفآ بحرارة تعبيرآ عن مدى الاعجاب والتقدير لعرضهم المذهل.

ولا أنكر بأني من رواد تلك العروض الموسيقية ومن أشد المعجبين بالاوركسترا السمفونية وأدائهم وقدرتهم على الالتزام والابداع.

الا أن الاسى يعتصر قلبي عندما التفت الى سمفونية الحياة الاجمل والاشد عظمة فأجد الكثير من التطابق في التنظيم المتقن واللحن الجميل والعدد الغير متناهي من الآلات العجيبة والعازفين المحترفين الا أن هذا الجمال الالهي لايتناغم مع حياة الانسان الفقيرة المظلمة.

كل من في الفرقة من جماد وحيوان ونبات وكائن اميبي او فضائي منقاد بأحكام الى ذلك النظام الصارم لايستطيع الخروج او الحياد عنه.

الا المخلوق البشري!.

بعيد عن النص لايدري ماذا يعزف او الآلة التي يعزف عليها، مشتت العقل، شارد الكيان، لايقوى على الانتباه والتركيز ولا يفهم الاشارات وكأن شيئآ يغشي نظره ويحجب فؤاده ويبقيه خارج العرض السمفوني وحيدآ بعيدآ عن كل شيء.

ولو انه اتبع الاشارات الالهية والتزم بها لما تحولت الحياة الى خراب في خراب لاشيء فيها الا الصراخ ونعيق الغربان .. صراخ الاسحلة وصراخ الثكالى والمظلومين والمخمورين ونعيق الصحافة والاعلام، حتى البيوت التي تبدو ساكنة هادئة من بعيد يملأها الصراخ والعويل في كل مكان.

الناس في سعير محموم ولكنه سعير فارغ وهذا الفراغ هو الذي يؤجج صراخهم ويجعلهم في حالة أستنفار دائمة لاتعرف الراحة ولاتنعم بالسلام.

ليس هناك عبث في هذا التصميم الكوني.

كل شيء يسير وفق نظام محكم للغاية ولا مجال للحرية الزائفة والانحلال من المسؤلية والاستهتار بالاخلاق والتضجر والتململ والاعتراض بسبب اوبدون سبب.

أما في تلك القاعة الصغيرة فأن العازفين والحضور يتمتعون بالاسترخاء والهدوء التام لان القاعدة الاساسية هي أحترام القوانين والانصات بعمق والاستمتاع بأنغام الالات وصولا الى النشوة الروحانية التي تتعدى الجوارح الى أعماق مجهولة في النفس.

فأذا غابت تلك العوامل وتصرف الجمهور والعازفين فوق خشبة المسرح بعشوائية وهمجية كانت النتيجة ضوضاء وفوضى وليلة مؤسفة ومخجلة في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية.

وهكذا نحن اليوم عار في تاريخ البشرية الذي عرف يومآ ما كيف يكون عازفآ محترفآ وأنسانآ مبدئيآ ومؤمنآ شفافآ.

كل ذلك مرجعه الى الحرية التي وهبنا الله اياها من دون الكائنات الاخرى فنحن احرار في أختياراتنا أن نشأ أنصتنا واحترفنا العزف وأن نشأ أنصرفنا خارج النظام وخارج اللحن.

قليل من يختار فن الاحتراف بالرغم من الكتب والرسل وعبرالتاريخ والمحن.

ثم في لحظة مباغتة يرجع الجميع الى وعيه بعد أن تغلق اوركسترا الحياة ابوابها ويبقى الانسان وحيدآ يستمع الى السمفونية التي كان يعزفها طوال حياته.