الصباح مختصر حياتي ونافذتي المنعشة على بحر الحياة.

يبتلع الليل بهدوء جميل، تدّب الروح في عروق الحياة بثوب أبيض فضفاض بعد ظلام طويل وليل ثقيل وأنفاس بطيئة، يتسارع النبض ويتراقص الفؤاد حتى أذا أنتهى ذهب البريق وبقيت لهفتي بأنتظاره حتى اليوم التالي.

أعتدت أن أقفز بفرح وشقاوة حول أبي في كل صباح، الجميع يغط في نوم عميق بعد سهر طويل، أنا وأبي لانسهر، ننام أول الليل ونستيقظ باكرآ في أول ساعات الصباح، يُحضر هو الفطور، نتحدث نتأمل نضحك، نجلس في باحة البيت المطلّة على الحديقة.

الحديقة تحتفل معنا بمهرجان الصباح، قطرات الندى، القرنفل والياسمين الابيض والقدّاح والنرجس والتولب، أصناف من الازهار الدائمة والموسمية بألوان فيروزية، أشجار البرتقال والتفاح والعرموط وقمرية العنب الكثيفة، حبات الطماطم والخيار والباذنجان والفلفل المتدلية بين الاوراق بركن صغير، عبق الريحان والنعناع يملأ الصباح.

أبي كان عالمآ في التربة، لكنها أمي من كان يدير هذه الحديقة ويحافظ على نظافتها وجمالها وتصميمها بشكل جذاب ورقيق، طوال أيام السنة، أتأملها تعمل بدأب ونشاط في الحر والبرد، تقتلع وتعالج وتحفر و تبذر وتسقي والعرق يتصبب منها ويصير لونها قرمزيآ لان بشرتها البيضاء لم تألف حرارة الشرق ولهيب شمسها، لكن ابدآ لم يمنعها من الاستمرار بدون ملل ولا تذمر.

أشعر بأنها تسمتد قوتها وقدرتها على التأقلم ببلد غريب بعيدآ عن بلدها من تربة هذه الحديقة ونباتاتها التي صارت أقرب أهلها.

أعتادت أن تقرأ حتى ساعات الصباح الاولى، ثم لا تصحو مبكرآ لترى رونق حديقتها وما تصنعه يديها الجميلتين، تحذرني دومآ من الضجيج في الصباح فهي تعلم أني لاأنام ذلك الوقت حتى أيام العطل والاجازات، وعادة لاأجلس هادئة.

أول شيء أفعله عندما أخرج من غرفتي، أفتح الستائر على مصراعيها، وأستمتع بشغف لا أجد تفسيرآ له الى أنعكاس الضوء والظلال والالوان على الحائط في لوحة سيريالية غامضة، لازلت أبحث عن تلك الخطوط المتراقصة على الحائط في كل صباح.

تنهرني أمي لان صوت الستائر يزعجها، لم أتوقف لكني صرت أفتحها على مهل شديد بلا صوت.

فقرة الستائر أهون من الدخول الى المطبخ.

في الصباح يدّب في كياني نشاط وطاقة عجيبة، لاشيء يسعدني مثل الصباح.

لاأحب الهدوء في الصباح، أرسم، أقرأ، أشتغل في البرودري مثلما توصيني أمي، أنشطة لاتلائم صباحي، وبما أن الخيارات محدودة فأني أجد متعة في كركبة المطبخ.

أرجع الصحون والملاعق وأدوات الطبخ من سلة الصحون الى أماكنها في الدواليب، ثم يأتيني الالهام لابدأ في ترتيب وأعادة صياغة هذه الدواليب على طريقتي، تصحو أمي ووجها محتقن من الغيظ، لايلبث أن يتحول الى أبتسامة غاضبة عندما ترى الدولاب.

لاأحب أن أسمع فيروز او اي موسيقى في الصباح مثلما يفعل أغلب الناس، أعشق صخب العصافير وسمفونيتها الصباحية التي تعزف فيها مئات الطيور بعشرات الالحان والانغام، أستمع اليها بعمق وأفهم حواراتهم، تلك المخلوقات الناعمة تشبهني كثيرآ فهي تستيقظ مبكرآ مع أول خيوط الفجر ثم لاتلبث أن تهدأ في النهار وتختفي مع حلول الليل، تقفز بمرح ولاتسكت في الصباح.

لو أني كنت شابآ او أعيش ببلد أوربي لما أزعجت أحدآ في البيت، لاستحالة بقائي في البيت عند الصباح.

أعشق دراجتي الهوائية وأكره الاعراف التي يفرضها المجتمع الشرقي، أغلبها لاتخص الا النساء، طبعآ فنحن جوهرة لايجوز لاحد أن يكتشفها او يراها خارج قوقعتها!!.

كنت أطير بدراجتي في الصباح، ثم صار أبي يمنعني عندما كبرت، لكنه كان يسمح لي بركوبها عندما نكون في منتجع الحبانية، هناك الصباح خرافي لامثيل له.

تهدأ الشوارع بعد ليل صاخب يروج بالناس والسيارات والدراجات النارية حتى الفجر، بعدها تكون الشوارع خالية لي أنا.

أذهب الى الفرن الاوتوماتيكي لاشتري الخبز، رائحته في الصباح تثير ذكريات وآمال لاحدود لها، أتجول في دراجتي بسرعة عالية ثم أرجع الى البيت، أترك الدراجة وأسير نحو البحيرة.

نسيمها عذب وناعم، تلمع بشدة كأنها منثورة بقطع من كريستال.

الساحل لي، نتكلم طويلا، أرمي محتوياتي في قعره العميق ثم أعود الى البيت.

هكذا عشت في بغداد أجمل أيام حياتي، لاادري أن كانت الحياة جميلة في مكان آخر كما كانت ببغداد، لااستطيع أن أذكرها بغير ذلك، بغداد تعني ترانيم الصباح والصباح يعني بغداد.

عندما رحلت، قالت: موعدنا الصباح.

حسبت أن الصباح ودعني بلا رجعة بعد أن تركت بغداد، ثم أدركت بأن سره وسحره أبعد من كل الحدود وفوق كل ترحال.

تركت كل شيء هناك، غرفتي، كتبي، حديقتي، أهلي، الا الصباح كان معي في كل بلد ومكان.

أحببت حلله الجديدة، أنيق دومآ وقادر على أن يشعل شموع الفرح بقلبي الحزين، صار له طعم آخر عندما تمتزج خيوطه بأشعة بغداد وحنين ذكرياتها.

صرت أستعد لذلك اللقاء في كل بلد مع الصباح، أنظر الى السماء، أستنشق الهواء بعمق، أستمع الى الكون بألهام ثم أحلق بعيدآ.

تتناغم الاصوات والاشكال مع الصباح حتى تكاد تنصهر في ملامحه، في عمان الاردن كان الصباح غريبآ بدون صوت بائع الخبز، في الرباط الصباح هدير الامواج الثائرة والمقاهي المنثورة على أمتداد الطريق، في كندا يبدأ الصباح بلوحة بانورامية خالدة ترسمها السماء بألوان مثيرة مليئة بالقصص والمشاعر، وفي ابوظبي أحتضن الصباح بأشعة صارخة تعكس ظلال النخيل مع صياح الديك.

وبما أني صباحية المزاج فأن وجبة الفطور عندي مقدسة ولها طقوس ومشاعر خاصة، لا أشرب القهوة لكن يسحرني عبقها.

حتى صار أغلب أصحابي يفضلون زيارتي صباحآ عند نهاية عطلة الاسبوع للاحتفال بمهرجان الفطور، بالاخص عندما يكون في باحة الحديقة تحت الخيمة المظللة بأغطيتها الشفافة وأثاثها الانيق وسمفونية الطبيعة عندما يكون الجو منعشآ.

الصباح ذكريات حية وطفولة بريئة ورغيف ساخن، مجردآ من الاقنعة والنفاق والمجاملات الثقيلة.

لازلت أنتظر الصباح كل يوم بلهفة وشوق لأعرف ما يخبئه لي، تفاصيل صغيرة ومسرات لايراها الا من يفهم لغة الصباح.