في كلمات شديدة البساطة يمكن أيجاز السيرة الذاتية لتشايكوفسكي عندما تسمعه يقول بكل حرارة وصدق:

“لكم يتطلب أرضائي القليل، تقدم معقول في عملي، فرصة السير عبر الغابات كل يوم، العالم الصغير ضمن وسط عائلي قريب، هذا هو كل شيء”.

وهذه هي سيرته حرفيآ، أنغماس كامل في العمل حتى لكأن كل شيء آخر في حياته كانت مجرد قوة دافعة ومكملة من أجل العمل وأبتكار المزيد من العمل سعيآ الى النجاح والعالمية لروسيا التي كان يعشقها ويشعر بالحزن والاضطراب كلما أبتعد عنها بالرغم من كثرة أسفاره في دول أوربا تحديدآ.

“في العادة تظهر بذرة العمل الموسيقي ومن دون توقع البته، فأذا كانت التربة خصبة، أعني، أذا كان المرء يشعر بميل للعمل فأن هذه البذرة تمد الى الاسفل جذورآ ذات قوة وسرعة معقولتين وتبدأ في الظهور فوق الارض، تدفع ساقآ ثم أوراقآ وفروعآ وفي آخر الأمر أزهارآ”.

كيف يمكن لشخص وصل القمة العالمية وبلغت شهرته مشارق الارض ومغاربها، وصار أسمه لامعآ ملاصقآ لعباقرة الموسيقى الكلاسيكية أن يتربع على قمة أخرى من الحزن والتعاسة.

أي قدر يجعل أمرء يعيش يومه ويبتهج الى حد النشوة والبكاء بجمال الطبيعة ومحاسنها والارتماء بشكل يومي في أحضاتها في نزهات تمتد لساعات في الغابات وبين الحقول والاشجار ثم لايجد الراحة والسلام في أغوار نفسه.

“إن المنظر الرائع لهذه الازهار الجميلة على منضدتي في هذه اللحظة يكفي بحد ذاته ليدفعني الى حب الحياة “.

أي قرار وأي ظروف وأي مصير يمكن أن يبرر هذه السيرة العذبة المليئة بالمرارة والالم.

بحيرة البجع، كسارة البندق، يوجين أونجين، روميو وجوليت، عذراء أوليانز، الاميرة النائمة، وغيرها الكثير من مؤلفاته وأبداعاته التي خلدت أسمه وأعماله في كل القرون والعصور.

ولد بيوتر إيليش تشايكوفسكي في سنة 1840 في روسيا.

تخرج من مدرسة القانون ثم عمل كاتبآ بوزارة العدل، ولكنه قرر أن يترك وظيفته بعد موافقة أبيه ليتفرغ للدراسة في المعهد الموسيقي.

حصل على وظيفة أستاذ بنفس المعهد بتوصية من المؤلف المشهور واستاذه في المعهد أنطون روبنشتاين وكان يدرس الهارمونيا أي التآلف بين الاصوات.

لم يكن شخصآ عاديآ في موهبته وأحاسيسه وأنفعالاته وحتى ميوله.

كان منطويآ يفضل العزلة والبعد عن المجتمع ولكنه يقدس الطبيعة ولايثنيه اي شيء عن نزهاته اليومية المنتظمة، وعلى نفس القدر كان يقدس أرتباطاته العائلية مع أبيه وأخته وعائلتها واخوته القريبين جدآ اليه، أصيب بحزن عميق أثر على حياته عندما فقد والدته في سن مبكرة.

“هنالك أكثر إثارة للاهتمام في مشهد صغير في الطبيعة مما في الثرثرة الفارغة والجدل المتلاطم التافه والمثير للشفقة التي يقضي بها المجتمع معظم وقته”.

لم يعرف الاستقرار أطلاقآ وكان في سفر دائم ليس من أجل السياحة والاستراحة بل من أجل العمل لانه كان يستمد ألهامه وحيويته من الطبيعة في المدن التي يقصدها والعزلة والاقامة التي تناسب طبيعته وحاجته للابداع والابتكار.

هناك سر موجع في أعماقه جعل حياته جحيمآ لايطاق وحرمه من الاستمتاع بنجوميته التي وصلت حد السماء.

لقد كان يعاني من المثلية الجنسية التي كانت في ذلك العصر عارآ وخزيآ وعقوبته صارمة ولذلك تم الحجز على كل مذكراته وسيرته لاكثر من عشر سنوات وأحجمت المصادر الروسية عن ذكر تلك الحقيقة ولكن أعلن عنها في الوثائق الاوربية.

“أنني كأنسان معاصر محطم ومريض معنويآ ولذلك فأنني أحسب نشدان السلام والغداء في موسيقى موزارت دون جيوفاني”.

وقد لاقى عذابآ وفشلآ عندما حاول أن يتخلص من ذلك المرض او العذاب الاخلاقي كما يسميه بالزواج، لم يستطع أن يحب زوجته أطلاقآ بل على العكس فقد كان يجدها مقيتة ولاتطاق فحاول الانتحار بالبقاء في بحيرة منجمدة متأملآ أن يصيبه ذلك بمرض شديد يموت على أثره، ولكنه رجع البيت ولم يصب بأي مرض.

لم يدم زواجه سوى تسعة أشهر ثم هرب من زوجته التي لم يكن يطيق حتى ذكر أسمها وكان يطلق عليها أسم “الشخصية المعنية” في رسائله الخاصة.

قبل زواجه كان تعرف على السيدة نادزدا فون ميك (ناديا) وكان يراسلها يوميآ حتى أستمرت صداقتهما لمدة عشرين سنة من دون أن يلتقيا مرة، يقول تشايكوفسكي في رسالة للسيدة فون ميك: يمكنني الشعور بانك صديقتي الحقيقة، الصديقة التي تستطيع قراءة روحي، بالرغم من حقيقة انه لا يعرف واحدنا الآخر إلا بواسطة المراسلات.

وكان يقول لها: أنتي عنايتي الالهية.

وهي أرملة ثرية جدآ تحب الموسيقى كثيرآ وكانت معجبه بعمله ومتحمسة له، وعندما علمت بحالته المادية الصعبة طلبت منه مؤلفات خاصة مقابل أجور عالية جدآ كوسيلة مهذبه لاعانته ثم خصصت له راتبآ سنويآ لكي يتفرغ لعمله من دون الالتفات الى المتاعب المالية مما أعانه على ترك وظيفته في المعهد والتفرغ كليآ للتأليف والتوزيع الموسيقي كيفما تتطلب طبيعته وحالته النفسية والعقلية.

وقد كتب لها سمفونية أهداها لها وهي السمفونية الرابعة.

أستطاع أن يحقق نجاحآ ساحقآ وأصبحت معزوفاته معروفة في روسيا وجميع الدول الاوربية وأمريكا وحصل على أستحسان القيصر والمؤلفين المشهورين وعامة الناس في كل مكان.

لكنه ظل يشعر بعذاب شديد وخجل بسبب طبيعته المختلفة حتى كانت سببآ في وفاته بشكل تراجيدي ومؤلم للغاية.

فبدل أن يحتفل بأنجازاته والمنصب العظيم الذي حصل عليه، وبعد أن تحسنت ظروفه المادية ولم يعد فقيرآ يعيش على أعانة صديقته، لم يكن أمامه خيار الا الاقدام على الانتحار لكي لايفتضح سره وتتشوه سمعته بعد أن شكاه الكونت الى أحد القضاة بسبب علاقته المشبوهة بأبن أخت الكونت، وطالب أن تصل رسالته الى القيصر.

كان القاضي صديقآ لتشايكوفسكي في مدرسة القضاء وبحكم الزمالة أخبره بشكوى الكونت فدارت بينهما مناقشات حادة بلغت حد الصراخ وكان ذلك الاجتماع شبه محاكمة سرية لدرء الفضيحة والحفاظ على سمعة الخريجين من مدرسة القضاء والتي كان تشايكوفسكي أحد طلابها.

خرج من تلك الغرفة في غاية الاضطراب وفي اليوم التالي رحل عن عمر يناهز 53 عامآ.

كانت أخر كلماته : “ومن يهتم على كل حال”!

حاول الاطباء وأخوانه التكتم قدر الامكان على موضوع أنتحاره ولذلك تم الاعلان عن موته بسبب أصابته بداء الكوليرا.

كانت سمفونيته السادسة هي الاخيرة ويطلق عليها الحزينة او الجنائزية وكأنه يرثي نفسه بها، يقول: لا مغالاة في القول بأنني قد وضعت كل روحي في هذه السيمفونية.

وقال أيضآ: كنت أبكي بغزارة عندما كنت أؤلفها بعقلي أثناء أسفاري.

وهي بحق تحفة فنية وأروع مؤلفاته، ومن أراد التعرف الى تشايكوفسكي فما عليه الا أن يستمع اليها.

Symphony no6 Pathetique.