في الساعة الخامسة صباحآ غادرنا الفندق من أمستردام بعد رحلة قصيرة ورائعة في جنيف وريف سويسرا الخلاب، ثم بضعة أيام في العاصمة أمستردام، متوجهين الى مطار شارلز ديكول في باريس والانتظار لخمس ساعات ثم التوجه الى دبي على متن طائرة الخطوط الجوية الفرنسية.

لم أستثقل الانتظار حيث كنت في الفصلين الاخيرة من الرواية زوربا العالمية ، التي رافقتني طوال الرحلة في صحبة شيقة مع شخصية أسطورية لامثيل لها.

في البوابة التي توقعت أن أجد فيها مكانآ هادئآ للانعزال، كان الناس محتشدين في قلق ولا محط لقدم في أي مكان!!.

جلست على الارض في زاوية ما على أمل أن يرحل المسافرين وتخف الزحمة، تبين لاحقآ أن رحلتهم المغادرة الى البرازيل قد تم تأجيلها من التاسعة صباحآ حتى الواحدة ظهرآ !!!.

قلت في نفسي الله يستر، أربع ساعات تأخير وأستبشرت خيرآ بأن نكون أفضل حظآ منهم وأن تكون رحلتنا على موعدها المحدد.

رجعت الى كتابي ولم أعد أعي ماحولي، كانت النهاية مؤثرة للغاية والاحداث تتزاحم في راسي.

عندما جاء موعد الصعود وكما رجوت بدون تأخير، كنت قد بدأت أشعر بالتعب ومستغرقة في تأملاتي التي تركني معها زوربا وكأنه شخصية حقيقية كانت ترافقيني وتحاكيني طوال الايام الماضية.

حصل بعض التأخير عند بوابة الطائرة، لاندري سببه!!

ثم تأخيرآ أطول في الباص الذي نقلنا الى الطائرة ولم يسمح لنا بالنزول الا بعد خمسة عشر دقيقة بسبب أعمال الصيانة!!!.

تحليت بالصبر وأستبشرت خيرآ.

أخيرآ صعدنا الطائرة المباركة وكلي أمل أن تكون رحلة ميسرة وسريعة لانشعر بها الا وقد وصلنا دبي.

لم يمض وقت طويل حتى أمتلأت الطائرة بالناس من كل الاجناس والبلدان بالذات الدول الاوربية وبعض الامريكان والعرب وآخرين غيرهم.

لحظات وجاء الى مسامعنا صراخآ عاليآ من الخلف، بدا الرعب والاستيغراب على الوجوه ووقف أغلب الركاب ليشاهدوا مايحدث!!.

عندما استدرت وجدت أربعة من الشرطة الفرنسية محاطين بشاب يصرخ ويصيح بكل قوته وهم يحاولون السيطرة على أنفعالاته الهائجة، ظل يصرخ بشكل هستيري وامتلأت الطائرة بالخوف والاضطراب.

سألت المضيفة التي كانت تقف الى جانبي: لم يعاملوه بهذه الطريقة؟ مالذي يحدث؟

قالت: لاتخافي هؤلاء من الشرطة

قلت: انا لست خائفة، ولكني قلقة على الشاب .. هل هو مريض؟؟.

قالت: لا، انه لاجئ أفغاني يقاوم بشدة لكي لايرجعوه الى بلده عن طريق دبي!!

ورجعت تؤكد لي بأن كل شيء على مايرام وأن في الطائرة عدد كاف من الشرطة المدربين.

قلت لها بعفوية: أنا خائفة على الشاب وليس منه، أن ما يحصل قمة في اللاانسانية!!

قالت: أعلم، انا معك .. ولكنها قوانين البلد ولن يسمحوا له بالبقاء.

سكت بعدها المسكين بعد أن أعطوه مهدئآ في الوريد وأقعدوه جثة بلا حراك.

كنت أعتقد بأني لن أصاب بهلع او خوف بعد أن خبرت الحروب وتآلفت مع التوابيت وأعتدت على مناظر القتل في كل الحروب التي عشتها وتعايشت معها في العراق.

لكن هذا الحادث أعاد كل شيء بومضة، رايتها كلها حية في صراخه ومقاومته وخوفه الذي مزق السكون.

لم أتمالك نفسي وصارت دموعي تجري بغزارة وحرارة طوال الرحلة،شعرت بالاهانة وهؤلاء القوم ينظرون اليه كأنه مجرم او أرهابي.

تمنيت لو كان صوتي أعلى منه فأصرخ يامحمداه .. ياعمراه .. يارباه من ينقذنا من هذا الظلم؟ الى متى يستمر هذا الجحيم؟.

ما فرقه عنهم؟ أنه في عمر الابطال والحياة كلها أمامه ليكون أفضل رجل وأفضل زوج وأفضل اب وقد يكون أفضل قائد .. أي قدر مشؤوم رمى به في هذا الدرك السحيق!

أحترت بأي دعاء أستغيث، فلم أجد نفسي الا وأنا أردد: انا لله وانا اليه راجعون، اللهم أجره في مصيبته واخلفه خيرآ منها.

انه دعاء الموت والعزاء .. وهل هناك أفظع من أن تقتل الرجولة والكبرياء!!

حلقت الطائرة بعد تأخير دام لساعتين، ورجع الجميع الى هدوئهم، وكنت لازلت جامدة مذهولة مما حصل.

لم أشعر الا والمضيفة تقترب مني لتعطيني قائمة الطعام، نظرت الى الورقة ثم اليها ولسان حالي يقول: وهو!!

أدرت رأسي وكان هو غائبآ، فقلت له في نفسي لاتحزن فكلنا مخدر مثلك، وكلنا طلقاء أسرى ، وكلنا هارب بلا وطن!!.

أنها رحلة قصيرة مهما طالت، سيكون لنا وطنآ حقيقيآ يُكرمنا وننال ما نشتهي ونتمنى بعدل وأحسان.