أقرأ .. عنوان كتاب الذي أنتهيت منه ذكّرني بهاجس قديم صار يؤرقني لكي أكتب وأطلق سراح أفكاري التي لم يعد لها مكانآ في تلافيف دماغي.

وقع هذا الكتاب بين يدي، لااؤمن بالصدف وأيقن بأن لكل حادث تدبير ألهي يعجز الانسان عن أدراكه فيسميه صدفة او حظ.

هذا الكتاب هو أحدى هذه التدابير، وجدت فيه ظالتي.

أسلوب وبلاغة ومتعة تكاد تخلع القلب من جنبات الصدر. لو استطيع ان أحفظ كل كلمة، لو أستطيع ان أعبر بهذا الابداع، لو كان عندي شيء من هذه العبقرية.

أمتلأ قلبي خوفآ وحسرة وأنبهارآ وأنا ابدأ أول دروسي في مدرسة صنع الكلمة، رجعت بي ذاكرتي عقود الى الوراء عندما دخلت المدرسة لاول مرة وأنا في السادسة من عمري، لاأملك الكثير من الذكريات، مجرد ومضات لوجوه وأماكن وأحداث مقتضبة تمر أمام عيني بسرعة خاطفة من دون أن تشبع وجداني بحنين تلك الايام و حلاوتها.

توصي مؤلفة الكتاب بأختيار أي موضوع للكتابة بغض النظر عن الكلمات والاسلوب، المهم القيام بعملية الاحماء الذهنية لخوض مباريات الكتابة.

في أول درس بعد أقرأ، قررت أن أكتب عن رحلة عائلية الى حديقة الخور في دبي، وأضع خطين تحت كلمة عائلية، لانها تكاد تكون معدومة بعد السفر والاغتراب، جاء عمي برفقة زوجته من بغداد لزيارة ابنتهم في زيارة قصيرة، وكان قد مضى وقت طويل منذ ان غادرت بغداد.

أوجعني لقائهم بقدر ما أسعدني وايقظ في كياني ذكريات وأيام أرغمت قسرآ على دفنها في أعماق نفسي عندما رحل أبي في أشد صدمة ولم نكد نستفيق منها حتى دخلنا بكارثة أقسى وعلى غرة في حرب تكاد تكون عالمية على شعب منهك ومحكوم عليه بالموت والشقاء.

مضى عقدين على غياب أبي، طالما رسمت له صورآ في ذهني وتسأئلت كيف يمكن أن يكون وهو في العقد السابع من عمره. اليوم بعد أن التقيت بعمي أستطعت أن أراه بملامحه، أنحناءة ظهره وترهل جسده، ضحكتة الحزينه واسنانه القليلة، صوته الشجي وعيناه الذابلتين بذلك البريق الذي أعرفه.

لم أستطع أن أتمالك نفسي وأنا أسترجع ذكرى أبي بأحضان عمي، شعرت بدموعه وهو يضمني، بكينا وأستذكرنا تلك الايام والاحداث قبل رحيله وبعدها، وما مر عليهم من ويلات وأيام سوداء كان فقدان أبي أهونها وقد يكون الموت أكرم له ولأاي عراقي على أن يعيش بذل وأنكسار ليرى تلك الاهوال التي وقعت على ذلك البلد البائس.

في دبي في شهر يناير، والحر يطبق على الانفاس والناس مستنفرة وكأنها في منتصف الصيف، تكاد تتلاصق ببعضها من الزحمة في تلك الحديقة، سمفونية ربانية بأصناف من البشر والشجر والكائنات، بعضهم بدء بحفل الشواء واخرين يتقاسمون الطاولي وأطفال أنطلقوا من أسر أمهاتهم وفريق يلعبون كرة الطائرة وأصواتهم تملأ السماء وكثير يتمدد على الحصائر والفرش في أستراحة مؤقته من دولاب الحياة وبعضهم جلس متأملآ تلك اللوحة الرائعة.

لاتوجد تلك الحميمية في حدائق كندا او البلدان الاوربيه مع أنها لوحة ربانية ليس للانسان فيها الا بعض اللمسات، ولكنها جامدة لاتثير في النفس مشاعر الالفة والانتماء. كل واحد يعيش بعزلة لاتلبث أن تنتقل اليك، تتحاشى نظرات العيون وتتكلم بهمس وهدوء ولاتختلط بأي غريب.

على عكس الحال في بلداننا، فبالرغم من الفوضى والازدحام والنفايات العشوائية وصراخ الاطفال وغلاظة بعض المتنزهين ناهيك عن مئات العيون المتلصصة والاذان المرهفة، الا أنها تشعرك وكأنك في حديقة بيتك، تتكلم بصوت جهور وتطلق ضحكة عالية وتجلس كما يحلو لك وتتصيد الفرص لتلتقي بالناس وتنطلق بالحديث تلقائيآ وبدون اي مقدمات وتطلب ما ينقصك من العائلة المجاورة وعندما يرتفع صوت الاذان ويستعد الناس للصلاة، يصطف الرجال من كل مكان في تناغم مع بقية الكائنات المسبحة.

فما بالك وأنت في هذه الحديقة مع عائلتك وأهلك، أجمل الساعات أن تكون مع أصدقاء تحبهم وتأنس بهم، ولكن صحبة الاهل تختلف، فهي هبة ألهية لايشعر بها الا من فقدها، ترابط وتراحم وأنتماء مطلق، أجيال مختلفة تمثل أصل العائلة وعراقتها، قصص من الماضي وفكاهات ونوادر يسطرها الكبار في دفاتر الصغار لتحيا وتستمر في الوجود، دموع وآهات ولوعة من ألم الفراق والشتات، وكثير من المشاعر والانفعالات التي تملأ الصدور وتشحن الجو دفئآ وسرور.

نجتمع على سفرة واحدة في أطيب طعام قد تكون نسيت مذاقه، مخلوط بالحنان ومطعم بالاصالة والامان، ليت الحياة أختزلت ليبقى ذلك اليوم خالدآ لاينتهي.

ولكنه الوداع .. سنة الحياة ووجع الانسان، مهما كان قويآ فالفراق يقهره ويشعل النار في قلبه ويترك ندبة لاتمحيها الايام وتظل نغصة في كل فرحة و مناسبة بأن يرجع الاحباب ويجتمع الاقرباء لتقر العيون وترتاح الأرواح.