أغلب الموظفين لايجدون المتعة والرغبة في الذهاب الى العمل كل صباح، وعند البعض قد يصل الامر الى مرحلة الكآبة والضيق النفسي لمجرد أن يفتح عينيه ويتذكر شبح الدوام.

لا يجوز التعميم فهناك فئة وأفراد تراهم يتفانون في العمل بنشاط عجيب وعقل ممتليء وعزيمة على الانجاز وحماس لايمكن تجاهله.

ما يلفت نظري أولئك الذين يأتون بأجسادهم وعقولهم مغيبة في مكان ما، فئة ليست بالقليلة إن لم تكن الغالبة، يتخلفون عن الدوام والحضور في أغلب الاوقات ويستلمون رواتب مجانية بدون مقابل، لاتجد في ملامحهم سوى الكسل والتململ وكثرة الكلام، بالاخص في المؤسسات الحكومية، فالوضع أهون بكثير في القطاع الخاص حيث لاتمنح فرصة العمل الا بحسب الحاجة الفعلية للكيان الاقتصادي وكل شيء بحساب ولامكان للتبذير والواسطات والمحسوبية.

هناك أسباب عديدة تجعل المرء غارقآ في ما يسمى بالبطالة المقنعة، أهمها عدم توفير عمل يتناسب مع المؤهلات والمواهب الشخصية وبعيدة كل البعد عن التخصص والتحصيل العلمي، فكيف يمكن لمن درس الاعلام وله كفاءة ومواهب أدبية ان يعمل في الحسابات او الذاتية، او أن يتولى أدارة قسم من لايملك أدنى درجة علمية او فكرية في حين يعمل من يحمل مؤهلآ عاليآ في السكرتارية على سبيل المثال والواقع أكثر مرارة ودهشة.

هناك سوء في الادارة والتخطيط كما أن هناك بطالة كبيرة وحاجة ماسة لاي عمل بغض النظر عن الاختصاص او الموهبة، لكن نتائجها متوقعة بلا شك، شخص ليس لديه أدنى أهتمام في العمل وتطويره او حتى تطوير نفسه في المجال الجديد.

في حالات أخرى، قد يتعين الشخص في المكان المناسب والاختصاص الملائم ولكنه لايجد في عمله سوى ساعات يعدها لينتهي الدوام بسبب عدم أعطائه فرصة حقيقية لاثبات ذاته والمشاركة في مشاريع هادفة، او تهميشه بالمزيد من الاعمال الكتابية والتقارير التي لاتحفز العقل ولا طائل من ورائها سوى أهدار المزيد من الحبر والورق والوقت.

فأذا أنطفأ بريق العمل ومات الطموح تحول الى شخص لا مبالي عديم المسؤولية والاهتمام لينضم الى قافلة العاطلين بعد أن كان يحمل في قلبه وعقله الكثير من الاماني والخطط في سبيل تحقيق ذاته والوصول الى مراتب النجاح.

أن هذا الخلل الجسيم في الهيكل الوظيفي أنما هو قتل للموارد البشرية والكفاءات المتميزة والمواهب الذاتية والطموح الانساني الذي هو اللبنة الاساسية لكل بذرة يٌراد لها أن تنمو وتكبر بشكل صحي ومزدهر لتنتج ثمارآ تؤتى أكلها.

في هذا المناخ الموبوء تنمو الكثير من الاعشاب السامة وتتكاثر الحشرات القاتلة حتى يصبح المكان فاسدآ وموحشآ لا يوحي مظهره بأي من مظاهر الحياة الطبيعية والسوية.

مجرد الخوض في تلك الظواهر المرضية هو أمر مؤلم ومحزن للغاية لا تتقبله النفس الشفافة ولا ترضاه الضمائر الحية.

أليكم مشهد آخر أنقله من غرفة الاجتماعات.

الاجتماعات والنقاشات في مجتمعاتنا من أكثر الظواهر تخلفآ وبؤسآ لاسباب لاحصر لها بسبب التسيب والفوضى الادارية، وعلى ما يبدو فأن مؤسساتنا ليست بحاجة الى أجتماع ومشاورة وأغلب القرارات فردية لاتحتاج الى تضييع الوقت وأيقاظ الموظف من غفوته وسباته.

يبدأ الاجتماع بوجوه كئيبة كأن الحياة قد أمتصت من قسماتها مظاهر الانسانية فتركتها صفراء شاحبة وغير مريحة.

يتداخل الجميع في نفس الوقت وتتعالى الاصوات ولاتستطيع ان تميز الموضوع او المواضيع التي يتم مناقشتها على الطاولة، واذا ما تابعت الحوار بنظرة بنورامية تجد أثنان قد قررا الانشغال بحديث لا علاقة له بموضوع الاجتماع، وآخرين يتفوهون بكلام حشو لا قيمة له، والبقية مشغولة حد الانهاك بهواتفهم التي يبحلقون بها بغباء بدون أن تطرف لهم رمشة عين.

ولست أدري ما الداعي الى الاكثار من أستخدام المصطلحات الدينية وكأنها شفرات ضبابية لمدارة الخيبة والفشل والهروب من النقاش الحقيقي والمسؤولية في التعديل او الاصلاح او الابتكار.

يا للسماء اذا ما تعارض الكلام مع أحد الآراء الموقرة، فلا ترى الا وقد أحتقن الوجه وأحمرت الوجنتان وتضخمت الاوداج وأزداد العبس عبسآ، تلك الطاولة لاتحتمل الا رأي واحد يجب المصادقة عليه بشكل سلمي او بأي شكل آخر تجنبآ لصداع الرأس وهدر المزيد من الوقت.

وهكذا يستمر اللف والدوران حول أسوار القضية وليس محورها، ثم يتحول تدريجيآ الى جدال لغوي لا حل له ولا أتفاق، ناهيك عن أستخدام الفاظ تجهيل الاخر “انت لاتعرف” التي يتحفك بها من لايملك حجة ولا علمآ ولكنه يود فقط أسكات الاخرين بأسلوب غير لائق ولا حضاري.

او على العكس فيقوم المتحدث الكريم بالابتزاز العاطفي اثناء النقاش في محاولة لتمرير وفرض آرائه بطريقة درامية ومثيرة للشفقة.

بدون مبالغة هذه الاجتماعات هي من أشد الاوقات تعذيبآ للنفس وأهانة للعقل للبشري ووئد صريح لكل تميز وأبداع.

دعوني بعد هذه التجربة المؤلمة أنقلكم الى غرفة الاجتماعات في العالم الاخر.

الغرفة غاية في الاناقة والنظافة لاشيء على الطاولة وجميع الكراسي مصفوفة بأنتظام حول الطاولة، الأضاءة مريحة ولوحة معبرة على الحائط.

يدخل الجميع بتحية وأبتسامة تثير في النفس البهجة والسرور، يُغلق الباب عند موعد الاجتماع والحضور كاملآ في الغرفة بلا نقص.

في أحدى المرات دخل المدير في الاخر فلم يجد مكانآ فاضيآ فما كان منه الا أن يستأذن ليحضر كرسيآ بدون أن يضطر أي موظف في التبرع بمكانه او الذهاب لاحضار كرسي له.

يبدأ الاجتماع بكلمة مقتضبة ومرحة بنفس الوقت من المدير تدل على ثقته ومعنوياته العالية وعلاقته القريبة من موظفيه، تنتقل فورآ بين الحضور، فيبدو الحماس والاثارة في الوجوه وتلتمع العيون بالافكار المتقدة وينتظر كل واحد دوره فلا يبدأ الحديث أطلاقآ الا عند أنتهاء الشخص الاخر.

لا هواتف ولا أحاديث جانبية ولا شرود ولا وجوه عابسة ولا تضييع لثانية واحدة.

يخرج الجميع وقد تم تدوين محضر الاجتماع والاتفاق على جميع النقاط الرئيسية وتوزيع الادوار والمهمات لتحقيقها بفترة زمنية محددة لايمكن تجاوزها او الاخلال بها.

تلك مجرد جزئية صغيرة من محيط العمل الذي أما أن يكون سببآ في بناء شخصية الفرد وتطويرها او ان تكون سببآ في تدميره والمحافظة على مجتمع منغلق ومعاق فكريآ وعلميآ وأدرايآ.