سمارا نوري

بدل من تقييمها فأن زوربا يجعلنا في مواجهة مجردة وصريحة مع النفس لتقييمها والغوص عميقآ في اغوارها ورغباتها وقدراتها وعلاقتها الحية والمباشرة مع الاحياء والجماد والطبيعة من حولها .

يضعنا المجتمع في قوالب جاهزة منذ نعومة اظافرنا ابتداءآ من داخل البيت وحتى أدق التفاصيل خارجه في المدرسة والاقارب والجامعة والمناسبات والاعياد وحتى الوفاة.

نحن نتبع قوانين صارمة واعراف حديدية لم نخترها ولكنها وضعت قسرآ بأيدينا ونكبر ونحن مثقلين بجرها والمحافظة عليها حتى في احلامنا.

هذه هي الصورة الحقيقية لمعظم الافراد في كل المجتمعات.

وتبقى هناك شخصيات قد تكون فولاذية في مظهرها .. رقيقة للغاية في جوهرها.

بطل روايتنا زوربا واحدة من تلك الشخصيات التي رفضت القيود وتحللت من القالب المجتمعي الجاهز الى أنسان بدائي يعيش الحياة بحرية فكرية واسلوب خاص وعلاقة مميزة ودقيقة مع كل شيء حوله حتى الصخر والشجر.

عندما يعتنق الانسان مبدئآ يؤمن به قلبآ وقالبآ، فأنه يتحول الى هدفآ في الحياة وغايه يسير اليها بثبات شديد وعزيمة لاتثنى.

أي كان هذا الايمان، صحيحآ او وهميآ، فأنه يكفي ليطير بصاحبه على حصان طروادة في اعقد الطرقات واحلك الاوقات.

أن الايمان سواء كان بإله واحد او قضية او وطن او مبدأ او حب او خيال، يتفاوت في الناس ويكون بدرجات، اقصاها تهب الانسان شخصية مميزة وهالة ذات طابع فريد واشبه بالاسطوري.

عندها تلتفت اليه الابصار وتتوجه صوبه الانظار وتنصاع اليه القلوب وتنجذب نحوه الارواح بقوة لامنطقية.

هؤلاء قلة في الحياة وان تقاطعت طرقنا بأحدهم فأنه/أنها مدرسة حقيقية نتعلم من خلالها سكنات الحياة وترانيم الكون في أدق تفاصيلها وابهج حلتها.

وقد وفقني الله بأحدى هذه الشخصيات التي لم اكن لاتخيل ان يكون لها اصلا وجود في حياتي .. ومن افضل المهارات التي اتقنتها بقوة وشغف، هي الانفتاح على العالم وتقبل الناس كما هم بدون حكم ولا تمييز.

في كندا كانت معي زميلة في العمل، اسمها لَشا -Lesia- وهي من الجيل الثالث لاصول اوكرانية، مرحة للغاية، تتحدث مع الكل بطلاقة وبساطة شديدة وكأنها على علاقة وطيدة مع الجميع، الا انها دومآ كانت تحاول الاقتراب مني بالذات واعتقد ان فضولها الذي وجد في شخصيتي اختلافآ واضحآ جعلها اكثر اصرارآ للتعرف على شيء لم تألفه.

خلال سنة اصبحت جزءا مهما في حياتي، لاتكاد تفارقني في البيت، في العمل، في السوق، في كل مكان. لاتتوقف عن الكلام ولا املّ من الاستماع اليها، كل شيء بالنسبة لها مغامرة وكل يوم نعمة، اعترف بأنها بهرتني بحبها العجيب للحياة واستمتاعها بكل ذرة هواء تستنشقها وضحكتها التي كانت تحول سماء كندا الرمادية الى ضوءا ساطعآ .. ولم اكن لاتخيل ان حياتها عبارة عن ملحمة من المآسي الا بعد ان صرت صندوقآ لكل اسرارها!!

كنت أمر في أهم واعقد تحول في حياتي، وكانت هي على دراية بذلك ودافعا خياليآ مع اختلافها الجوهري لعقيدتي الا انها وبصورة غير مباشرة كانت تحفزني على التحرر من كل القيود، والانصياع لما يمليه عليّ ضميري النابع من ايماني، والتعامل مع الناس والاشياء من خلال مبادئي.

أنها مدرسة بحق تختلف عن كل الجامعات والمدراس العلمية والادبية التي حضرتها، والمؤتمرات وورش العمل التي شاركت فيها .. في مدرستها شيء لايمكن تدريسه لانه عفوي وفطري ولايمكن تحضيره مسبقآ.

قد يكون الكتاب مستفزآ لفئة من الناس التي لاتتقبل منهجية الاخر وعلى وجه التحديد النمط الغربي في العيش والتفكير .. وهؤلاء يحرمون انفسهم من القدرة على فهم الغير والتأمل في النفس البشرية وتمييز مواطن ضعفها وقوتها بحيادية، بعيدآ عن الادراك والفهم المرتبط ببيئة اجتماعية محدودة.