عندما وصلت الميناء ورأيت السفينة العملاقة، تذكرت للوهلة الاولى ما قاله الكابتن إدوارد سميث قبطان السفينة الاسطورية تايتانك (حتى الله لن يغرفها) ثم أستقرت في قعر المحيط الاطلسي في اليوم الخامس من رحلتها وراح ضحيتها 1517 من ركابها، وكانت قد صممت وفقآ لنظرية السفينة التي لا تَغرَق ولا تُحرَق.

أجبرتني على الوقوف بصمت أمامها وكأنها غول لايتلائم وحجم الكائنات حولها، ترقرقت عيناي وانا أستشعر قوته وصغرنا.

الا يستطيع أن يجعلها عدمآ بكل ضخامتها وهيبتها، كما صارت تايتانك قصة وفلمآ ومتحفآ وعبرة للعالمين.

لماذا أراه في كل تفصيل وجزئية ترصدها عيني وتلتقطها أنفاسي وتدركها حواسي؟

لما لايستطيعون؟

يتملكني الفضول أن أقتحم صدورهم لاأعرف كيف يختلفون.

أليس لنا نفس العينين والاذنين !!.

ألا نملك نفس القلب!!.

بل لعل العلة كلها في تلك القلوب، تجعلني أسيرة له وتجعلهم عبيدآ لبعضهم.

كل شيء يرضخ له، البحار والسموات والكائنات والجبال وأمة أخرى تحت الماء.

كل شيء يصرخ به.

حتى هذه العملاقة بدت طيعة بين يديه وهي تجري كالسحاب.

كل شيء ركع وكبرّ .. الا أنت !.

ما أوقحك يابن آدم، خلقك من ماء مهين فجعلك أجمل مخلوقاته، وأودعك جنة أرضية تُأسر لها الالباب، فتكبرّت وأبيت الا أن تكون جاحدآ متحديآ بضراوة وعناد.

تحمست للرحلة الى جزيرة سانتوريني في اليونان التي حجزنا للذهاب اليها عبر هذه السفينة.

صعدتُ الى أعلى السفينة لاتأمل كبرياء البحر ورقته اللامتناهية والجبال تحتضنه من كل جهة، ألتقط بعدسة عيني ما يمكنني خزنه في ذاكرتي.

فتحت حقيبتي وأخرجت قارورة صغيرة أودعتها رسالة خاصة اليه، رميتها بقوة في البحر وشيئآ مني.

شعرت بخفة وراحة عميقة ثم سقطت على أقرب كرسي وأخذت نفسآ عميقآ.

أغلقتُ عيني، ثم أستسلمت.

رأيت أني وجدت وطني.

وطني الذي أنساب من بين أصابع يدي كرمال الصحراء.

وطني الذي علمني التمرد في أولى سنوات عمري.

وطني الغارق بالدماء حتى الثمالة.

وطني الذي لم يعد سوى هياكل آثار بابلية في عالم مقيت.

فكيف يعود الان وقد تغيرت تضاريسه وملامحه؟

رأيته جميلآ كبحيرة هادئة.

لمرة لاأجد نفسي أختلف عمن حولي، الجميع يشبهني، وجوههم كأنها قطع من شمس ساطعة لايعكر سيماهم خوف ولا ألم، بسلام وسكينة يمرحون.

تبخرت الساعات والايام ..

أصفرت السفينة منادية بالرحيل، هالني ان أرجع معهم وهم يستعجلونني وينادون بأسمي.

تجمدت في مكاني وعقلي يصرخ: كلا لن أرجع.

كل شيء هناك يخيفني ويثير أشمئزازي .. لا أريد أن أرجع !!.

ثم سمعت صوتآ في رأسي يقول: “لاتحزني ستعودين، ولكن .. بعد حين”.

شعرت بنبضات قلبي تتوقف وضغط هائل في رأسي.

فتحت عيناي ودرتُ برأسي أبحث عن ذلك المكان ..

سألت: أين نحن؟

رد أحدهم: نحن على وشك الوصول الى الجزيرة.

الجزيرة !!.

ولكني رأيتها ..

وسأنتظر لكي أعود اليها.