مما يلفت النظر في حياة ابن خلدون، لاسيما الفترة التي اشتغل فيها في السياسة، أنها لم تخلو من خلق الغدر والنفاق والانتهازية. وهو أمر يكاد يتفق عليه أكثر الباحثين.

لقد كان يحب الجاه والمنصب حبآ جمآ ولايبالي أن يدوس على جميع المباديء الخلقية في سبيلهما. ويبدو أن هذه العقدة النفسية قد ضعفت لديه بعد كتابة المقدمة ولكنها لم تذهب عنه فقد ظل يعاني منها قليلآ او كثيرآ حتى آخر يوم في حياته.

يذكر في التاريخ أنه كان يتملق للامراء وقد روى بنفسه في كتاب التعريف تفاصيل مقابلته لتيمورلنك خارج اسوار دمشق.

وهذا يعطينا صورة واضحة لخلق ابن خلدون وبراعته في التملق والنفاق، هذا وقد كان عمره يناهز السبعين، فكيف كان حاله عندما كان شابآ طموحآ يحب السياسة ويندفع في سبيلها بشدة!!.

يحاول بعض المعجبين تبرئته من وصمة النفاق والتملق وكأنهم لا يستطيعون أن يتصوروا مفكرآ عظيمآ كابن خلدون يسير في سلوكه الشخصي على هذا النمط الذميم، ولعلهم يرون أن الرجل ما دام عظيمآ في تفكيره فلا بد أن يكون عظيمآ في سلوكه.

إن هذا الرأي لا يلائم ما يقول به العلم الحديث في أمر تكوين الشخصية في الانسان ومدى الصلة بين السلوك والتفكير فيها على حسب رأي د. علي الوردي. فالانسان قد يكون ذا تفكير عظيم جدآ، وهو في الوقت ذاته ذو سلوك منحط.

لقد كان ابن خلدون في سلوكه قصير النظر، شأنه في ذلك كشأن أمثاله من الانتهازيين المنافقين، كان يحاول الاستفادة من اليوم الذي هو فيه ولا يبالي بما يأتي به الغد. أن العقدة التي سيطرت عليه من شأنها أن تحجب عنه النظر في عاقبة سلوكه فيندفع بها أندفاعآ لا شعوريآ، كأندفاع البخيل في تكديس المال او الغني في سرقة الملاعق!.

قد يقول قائل: اذا الرجل على هذا القدر من العيوب والسلوك المنحط فكيف جاز إذن أن نعد نظريته طفرة في تاريخ الفكر الاجتماعي؟

الكثير ممن أعترضوا على نظرية ابن خلدون كانوا يريدون في نظريته أن تكون عظيمة وكاملة من جميع جوانبها لكي ينظروا اليها بأحترام وتقدير.

ويصف الدكتور علي الوردي بأن خطأ هؤلاء أنهم يفترضون في الشيء العظيم أن يكون عظيمآ من كل ناحية ولايتناسون أن ليس في الدنيا عمل بشري يخلو من نقص على وجه من الوجوه، والناقد الذي يركز بحثه على الجوانب الحسنة وحدها او السيئة وحدها، إنما هو ناقد من الطراز القديم.

فالرجل كان ذا تفكير عظيم بمقدار ما كان ذا سلوك منحط كما يقول الوردي، ولعله لم يكن قادرآ على إبداع نظريته لو كان ذا سلوك عادي!!. ربما كانت انتهازيته المفرطة التي شذّ بها عن مفكري زمانه هي التي جعلته يشذّ عنهم في التفكير. فالجانبان متلازمان كتلازم الصفات الحسنة والسيئة في الاشياء جميعآ.

كانت نظرية ابن خلدون طفرة بالنسبة الى التفكير الذي كان سائدآ قبله، فقد كان المفكرون مشغولين بأفكارهم المثالية العالية التي تستنكف من النزول الى واقع الحياة لتدرسه. وجاء ابن خلدون ثائرآ على هذا النمط من التفكير، لكنه تطرف في نزعته الواقعية مثلما تطرف القدامى في نزعتهم المثالية.

ونحن اليوم بحاجة الى أن نتخذ الحد الوسط بين هاتين النزعتين المتطرفتين، فندرك في كل منهما ما لها ومن جانب حسن وجانب سيء.

إننا نعيش في عصر مفعم بالثورات، وقد أصبح مفهوم الثورة يختلف عن مفهومها في عهد “وعاظ السلاطين” ولهذا وجب أن تكون دراستنا الاجتماعية قائمة على أساس البحث فيما نحن فيه من واقع وما يجب أن نكون عليه من مثال فلا نفرط في أحدهما على حساب الآخر.

إن المجتمع عبارة عن توازن بين دافع الواقع ودافع المثال، فهي أما أن تكون جمودآ او تكون فوضى. وخير للمجتمع أن يكون على الخط الاوسط بين الجمود والفوضى.

المغزى من هذا الملخص هو أن الطفرة الفكرية الكبرى التي قام بها ابن خلدون لم تكن من صنع يده، فقد كانت نتاج عوامل شتى أحاطت به وأثارت فيه الصراع النفسي.

إن المفكر المبدع او أي عبقري آخر لايستطيع أن يصنع نفسه، إنما هو صنيعة الظروف المحيطة به. فالعبقرية لاتخضع لقانون من جدّ وجد ومن سار على الدرب وصل. وقد يخيل للبعض منهم أنه نال ما أراد فيخرج الى الناس بالافكار التافهة وهو يحسب أنها ستهز الدنيا.

سلسلة منطق ابن خلدون

المصدر: كتاب منطق ابن خلدون – د. علي الوردي