لطالما تمنيت أن أدفن هذا الملف في مكان سحيق أشد ظلمة من ظلمته … ولم أفلح!.

أجتزت البحار والجبال .. غيرت خارطة حياتي .. هربت الى أقصى بقاع الارض .. تآلفت مع الثلوج والصقيع وأنا أبنة الصحراء، تظلني شمس قائظة وتلسع قدماي حرارة ملتهبة.

غيرت كل شيء، هيئتي وشهادتي وتخصصي وأفكاري وأصحابي وبلدي ولم يبق الا ملامح تذّكرني قسرآ بما كان في فترات متباعدة.

ولكي أُحكم الاغلاق قررت ان أهجر الاخبار ومتابعة الاحداث ونجحت الى حدٍ ما أن اعيش صماء لاينفذ الى أذني الا ماأحتاج أن أسمعه.

نجحت أن أمحي من ذاكرتي تفاصيل غرفتي وغرفة الجلوس والمكتبة و المطبخ والحديقة في بيت كنت أظن انه العالم كله، ولم يكن ببالي ان يتآمر عليه العالم كله!!.

أثقلتني ذكراه كثيرآ، وكان لابد من أستئصاله من ثنايا أحشائي لابقى على قيد الحياة.

وبأضمحلاله ذهب كل شيء خلف ضباب كثيف يصعب ان أصله، مدرستي، صديقاتي، معلماتي، أسماء الشوارع، تاريخ تخرجي، وايام شقاوتي.

أستبقت عمري وأقراني وصرت أفهم اكثر مما يجب … الا امرآ واحدآ أعجزني ولن أستطيع ان أدركه .. الانسان .. هذا المخلوق الخارق الذي هو في كل ساعة أنسان آخر!!.

ولاادري أيهما كان السبب في ثورتي، رحيل أبي قبل آخر امتحان من تخرجي، أم رحيل العراق بعد شهرين من فاجعتي في أبشع حرب عرفها التاريخ، أطلقوا عليها أسم “عاصفة الصحراء” وكأنها آخر صيحات هوليود في أضخم أنتاج سينمائي تقدمه أمريكا للعالم.

أسم مخيف وحقيقي حتى الصميم، وقد يكون الشيء الحقيقي الوحيد في تلك الحرب …..

عصفت بكل شيء ولم تذر على شىء ولايزال غبارها يملأ الارض خرابآ ودمارآ.

أعلم بأني أُوجع الكثير بما أقول ولكني قررت أن أقتحم الضباب وأخرج هذا الملف الذي يأبى ان يُغلق .. من أروقة ذاكرتي.

وكيف يُغلق والمجرم حر طليق لم ينل مايستحق من عقوبة وجزاء، بعد ان جرب كل أسلحته الحديثه والتي في طور التجريب وعبقريته التكنلوجية وجراثيمه البايلوجية من أجل حفنة مال ومصالح أنفرادية وحقد دفين بأسم الديمقراطية والحرية والانسانية!!!.

وحدي أنا من سبعة عشر مليون نسمة – سابقآ – عندي اكثر من سبع قصص مصيرية لايدركها عقل ولايحتملها وجدان كان سببها تلك الحرب، ولكني سأعفيكم وأنزل الى واحدة فقط وفاءآ لذكراها وتخليدآ لضحاياها.. لم يكن لي دور فيها غير الشهادة عن كثب والا لكنت اليوم معهم في عليين.

قد اتناسى ماحصل لي ولكن نسيانهم خيانة كبرى وأثم عظيم.

كنا قد سأمنا تلك الاصوات التي تصم الآذان وتشق الكونكريت وتملأ الدنيا رعبآ وعذاب، ننتظر الموت من كل جهة وفي كل لحظة. قررنا ان نترك البيت الى ملجأ قريب حيث الامان وبعض السكينة مع الحشد والناس من النساء والاطفال وكبار السن.

كان هناك ملجئين عندما وصلت الاشارة الضوئية مع أهلي قريب وقت الغروب، واحد على اليمين والاخر على اليسار. أي واحد نذهب؟ سألت أمي وأختاي الاصغر مني.

كنا قد سمعنا بما يسر عن الذي على اليمين، حيث هناك تلفزيون، وبعض انواع التسلية، وحتى مجففات للشعر … بعد ان دخلنا عالم الانسان “الاول” منذ بداية الحرب ولخمسة واربعين يومآ من القصف المتواصل والعيش في ظلام وحصار بلا ماء ولاكهرباء ولااي مظهر من مظاهر الحياة السابقة.

قررنا الذهاب الى الملجأ الذي على اليسار، خوفآ من الزحام وابتعادآ عن الضوضاء والضجيج.

كان موحشآ وغريبآ، ولم يستطع احد منا أن ينام تلك الليلة مع أنها كانت هادئة بدون تلك الاصوات.

قلت لجارتي التي بقربي وكلنا نائمين على الارض وعيني لاتهدأ، ولاادري ان كنت اطمئنها أم نفسي فقلت لها أنظري الى هذه الاعمدة لو حطت عليها طائرة لما أستطاعت ان تثنيها.

ولكنه ضيق الاقبية .. وضيق الصدر.. وضيق الوطن.

في ذلك اليوم لم يطلع الفجر وطمست البلاد في ظلام وسواد سرمدي.

دخل بعض الرجال مذعورين يلملمون أولادهم وأهليهم ليخرجوا سريعآ من المكان، دبت البلبلة في كل مكان، ولم نستطع ان نستعلم اي شيء عدا صراخ رجال آخرين بأقصاء المكان فورآ!!.

لماذا؟ ماالذي يحدث؟ لااحد يعلم.

ركبنا السيارة وكان زوج جارتي ينتظرهم، سألناه ماالذي حصل؟ وكيف أتيت؟

وليتنا لم نسأل .. ولم نعرف.

قال: لقد قصفوا ملجأ العامرية فجر هذا اليوم بصاروخين.

صاروخين مخصصة لاختراق الاهداف الخرسانية من خلال فتحة التهوية الخاصة بالملجأ، فأُغلقت الابواب والمخارج، ومُنع المحتمين في الداخل من الهرب والمنقذين من مد يد العون.

وكانت الامة الامريكية والعالم الغربي يحتفل بعيد الفالنتين في ذلك اليوم……

لقد كان موعدآ حقيقيآ ومؤجلا مع الموت.

في الطريق الى البيت وعلى ذلك الجانب الايمن كانت السماء قد أمتلأت بالدخان الاسود الكثيف .. ومئات الارواح.

وعندما وصلنا الى البيت كان الجيران يطرقون على باب بيتنا بهلع لعلمهم بذهابنا الى ذلك الملجأ في تلك الليلة.

أحيانآ أتمنى لو كنا معهم في ذلك المكان ولتنتهي بعدها كل فصول الشقاء .. ثم استغفر الله واحمده.

ستظل هذه الجريمة شاهدآ لن يموت .. ليست الاولى في صفائح تاريخهم الاسود ولن تكون الاخيرة .. ازدادوا غرورآ وقباحة وكراهية وهم يرتعون ويدمرون في كل مكان بأسم الديمقراطية والحرية والانسانية.

تحولت أسيجة البيوت والجدران والشوارع الى لوحة ضخمة قاتمه من لافتات التعازي السوداء، كل واحدة تنعي أفرادآ من كل بيت تاركين الازواج والآباء والاحباب يصرخون كالنساء من ظلم لايشفى وثأر لاينسى.

لن أسامحهم ولو لم تبق الا هذه الفاجعة وسأحملها حية في صدري الى آخر نبض .. وعندما تنطلق صيحات يوم البعث وأمتثل أمام الحاكم العادل، فأني سوف أطالب بالحق والقصاص ولن تكفيني حتى جهنم عقابآ لتطفىء ماأشعلوه في قلوبنا وبلدنا الى يومنا هذا ….

لن تستطيعوا أن تستتروا بأبرع الافلام وأعظم الانجازات، ومئات الاعمال الخيرية، وما توصلتم اليه من علم ومعرفة. فأنها لن تبهر الا الجاهلين ولن تضل الا الاموات .. أما من أُبتلي بالحياة ولايزال في قلبه نبض فلن يمر عليه ماتفعلون مرور الكرام.

ولازالت المعركة قائمة .. ولازال الطمع ربكم الأعلى .. ولازالت ايديكم ملطخة بالدماء.

لن تشترونا بوطن مزيف وجنسية ليست الا وثيقة نعبر بها الحدود .. ولن تأخذوا أولادنا وأن تكفلتم بتربيتهم وتعليمهم و غسل أدمغتهم .. لانكم لم تخلقوهم ولم تغرزوا تلك البذرة في كيانهم .. ستكبر وتقوى وتثمر وستطالب بحقها الذي أُغتصب منها وستنكشف الحقيقة ويُعرف الجلاد.

سوف أحيي هذه الذكرى في كل سنة بعيد الحب عندما يحتفل الناس بحب مزيف ونحتفي نحن بالاموات.

سلامآ على تلك الارواح …..

بعض من أسماء الضحايا

أيمان نايف أحمد طالبة 1973
ياسر محمد باشد طفل 1990
أمل محمد عباس طالبة 1963
صبيحة محمد عباس ربة بيت 1959
أيمان محمد عباس طالبة 1976
عدنان فراس حسين طفل 1986
كريمة رشيد ظاهر ربة بيت 1941
مصطفى صلاح طفل 1989
غسان حسين أبراهيم متقاعد 1937
سمية ابراهيم محمود معلمة 1947
شذى محمد علي طالبة 1968
ندوة محمد علي طالبة 1972
جعفر محمد علي طالب 1975
مها محمد علي طالبة 1976
بيار محمد علي طالب 1976
نها محمد علي طالبة 1976
أسراء عبد طفلة 1984
يحيى عبد طفل 1985
هبة عبد طفلة 1990
فرح عبد طفلة 1986
أروى عبد طفلة 1988
أيناس سامي داود طفلة 1985
علي سامي داود طفل 1987
سارة سامي داود طفلة 1990
فرح سامي داود طفلة 1989
زينة خليل ابراهيم طالبة 1978
علي خليل ابراهيم طالب 1969
زهراء محمد نادر طالبة 1979
مروان محمد نادر طفل 1985

وتطول القائمة ….