من روائع مصطفى محمود في الصمت من كتابه الروح والجسد

يقول:

نحن نتبادل الكلمات والحروف والعبارات كوسائل للتعبير عن المعاني وكأدوات لكشف كوامن النفوس ونتصور أن الحروف يمكن أن تقوم بذاتها كبدائل للمشاعر ويمكن أن تدل بصدق على ذواتنا ومكنوناتنا.

والحقيقة أن الحروف تحجب ولا تكشف .. وتضلل ولا تدلل .. وتشوه ولا توضح .. وهي ادوات التباس اكثر منها ادوات تحديد.

يقول الحبيب لحبيبته:
-احبك

وهو يقصد بذلك التعبير عن حالة وجدانية خاصة جدآ وذاتية وجديدة عليه فلا يجد الا كلمة هي صك مستهلك تهرأ من كثرة الاستعمال .. كلمة اصبحت ماركة مسجلة لأردأ انواع البضائع ..

فإذا حاول أن يستخرج من قاموس الحروف ومعجم العبارات كلمات أخرى فانه لا يجد إلا المجاز والاستعارة والبيان والبديع وضرب الأمثلة .. فيقول لحبيبته أنه يحبها كما تحب الوردة ندى الفجر أو كما تحب ظلمة الليل شعاع الشمس أو كما تحب صغار العصافير أعشاشها .. وهو كلام فارغ آخر يترجم الحالة الخاصة الفريدة إلى سلسلة من البدائل المزورة ويحول الشعور البكر إلى ثرثرة جوفاء لا تدل على شيْء.

ولو أنه صمت لكان صمته أبلغ.

وللصمت المُفعَم بالشعور حُكم أقوى من حكم الكلمات ..

وله إشعاع وله قدرته الخاصة على الفعل والتأثير ..

والمحب الصامت يستطيع أن ينقل لغته وحبه إلى الآخر إذا كان الآخر على نفس المستوى من رهافة الحس وإذا كان هو الآخر قادراً على السمع بلا أذن والكلام بلا نطق.

والإنسان معجزة المخلوقات..
وهو ليس آلة كاتبة .. ولا اسطوانة ناطقة.
وهو أكثر من مجرد آليات جسدية ..

هو عقل وروح ووجدان ..

وذاته مستودع قوة وأسرار إلهية.

وهو يستطيع أن يتكلم بلا نطق .. ويسمع بلا أذن .. ويرى بلا عيون.

وكلما كان شعورنا حميماً وكلما كان حبنا متغلغلاً في شغاف القلب مالكاً لناصية السر ساكناً لُب الفؤاد كلما عجز اللسان وتضعضعت الكلمات وتقطعت العبارات ..

والحقائق الإلهية أكثر استحالة على الألفاظ .

هنا الالفاظ تتحول الى جلاميد صخر لا تصلح على الاطلاق لوصف ذات الله المطلقة.

والألفاظ في رحاب الله استار وحجب والكملة حائل والعبارة عائق والاصطلاح عقبة.

الحروف لاتدل عليّ .. الكلمات لاتدل على اوصافي..

أوصافي التي تحملها العبارة هي اوصافك بمعنى ..

وحينما اقول اني انا الرحيم فأنك تفهم رحمتي برحمتك وما رحمتي ياعبدي كرحمتك.

انما اوصافي من وراء العبارة

ومن اوصافي اني “الأبد” ولا عبارة في الأبد .. انا الذي ليس كمثله شيء.

انما يكون تعرفي اليك بلا نطق وبلا عبارة.

وإذا جاءك وصفي بلا عبارة فقد جاءتك الحقيقة

واذا وقفت في حضرتي فسترى الحروف اصنامآ والعبارات اوثانآ.

ومعدن الحب الشفيف العالي هو من نفس معدن هذه المطلقات ولغته من لغتها فهو من خصائض الروح وهو في صميمه انعطاف روح قبل أن يكون انعطاف جسد وحينما تبلغ المشاعر الى تلك المنطقة يسكت اللسان وتصبح اللغة صمتآ.

ولهذا أحبّ الصمت وأوثر الصمت كلما شعرت بهذا القرب الحميم نحو انسان .. ذلك القرب الذي يتسلل الى الشفاف ويسكن الحنايا دونما صخب ودونما ضجيج ودونما اضطراب.

فهنا لا وجود للانفعال المبتذل الذي تتكلم عنه الاغاني ولا وجود للأوجاع والبكائيات.

ولا مكان لبلاهة قيس واشعاره.

ولو اني استعرت تلك الكلمات القديمة لأعبر بها عن ذلك القرب الحميم لكنت ثرثارآ أجوف اتكلم عن رجل آخر غيري.

فهنا شعور جديد تماما وخاص جدا وذاتي.

هنا حضور مؤنس يشيع الدفء والبهجة الهادئة والاحساس بالمعية التي تطرد الوحشة والوحدة.

هنا كل شيء هامس خافت بلا صوت وبلا صورة وبلا لفظ وبلا غرض وبلا مأرب ..

فما ابلغ الصمت ..

وما اقدره على التعبير

مصطفى محمود
الصمت من كتاب الروح والجسد