لاشك أن نظرية ابن خلدون فيها شيء من ضيق الافق، وعلى الرغم من النقص الذي فيها فقد ظهر فيها الجانب الحركي و الجانب السكوني بشكل غير مقصود، مما يلفت النظر أن آباء علم الاجتماع الحديث، وهم كونت الفرنسي وسبنسر الانكليزي ووارد الامريكي، اهتموا بتقسيم دراساتهم الاجتماعية الى جانبين، حركي وسكوني.

اما الجانب السكوني فقد قام على نقض قانون عدم التناقض، وقام الجانب الحركي بنقض قانون الذاتية.

أي أن النقيضان لايجتمعان في نفس الشيء كما يقول أصحاب المنطق القديم، فالحسن يكون حسنآ في جميع صفاته وكذلك القبيح يجب أن يكون قبيحآ في جميع صفاته.

اما ابن خلدون فقد خالف هذا القانون في الجانب السكوني من نظريته، فهو عندما درس البداوة ذكر صفات متناقضة تجمع الحسن والقبح معآ. فأذا نظرنا اليهم من جهة معينة وجدناهم أكثر الناس توحشآ وميلآ للنهب والتخريب، ومن أشدهم بعدآ عن العلم والفن والصناعة. في حين أذا نظرنا اليهم من جهة اخرى نرى فيهم صفات الشجاعة ومتانة الخلق وسلامة الفطرة والابتعاد عن الترف والابتذال والتسفل.

وكذلك يكون الحضر في نظر ابن خلدون، ففيهم تتمثل معالم الصناعة والعلم والفن من جهة، وتسودهم أخلاق الترف والجبن والمكر من الجهة الاخرى.

خلاصة رأي ابن خلدون في هذا الصدد هو أن هناك أمرين في الحضارة يجعلان أهلها أسفل أخلاقآ من البدو، هما الترف وظلم الحكام.

فالترف يؤدي بأصحابه الى التخلق بالفحشاء والعكوف على الشهوات والاقبال على الدنيا، والظلم يؤدي بهم الى التخلق بالكذب والمكر والنفاق.

أما البدو فإنهم لقلة وجود هذين الامرين في مجتمعهم لا بد أن يكونوا أسلم فطرة وأفضل أخلاقآ من الحضر.

وحين ندرس البداوة قديمآ وحديثآ نجد فيها صفات الصدق والصراحة والعفة والوفاء والشهامة والكرم ما يندر وجوده في أهل الحضارات المجاورة، وهناك الجانب الاخر الذي يتمثل بأحترام النهب والتخريب واحتقار العلم والصناعة.

إن هذا المفهوم في الاخلاق يصعب على المفكرين القدامى قبوله، حيث يرون أن في مقدور أي فرد او مجتمع أن يكتسب جميع الاخلاق الفاضلة او أن يبتعد عن الاخلاق الوضيعة وهو ما يعرف في المصطلح الحديث بتجزئة الشخصية، وقد اتضح في المفكرين المسلمين لاسيما في جدالهم الطائفي او القومي.

فالرجل في نظرهم إما أن يكون فاضلآ كل الفضل او وضيعآ كل الضعة، فليس من الممكن في رأيهم أن يصدر من الرجل الصالح عملآ غير صالح مهما كان صغيرآ او تافهآ. وكانوا ينظرون الى الامم بمثل هذه النظرية.

هنا تظهر أهمية ابن خلدون، فهو يرى أن الانسان لايستطيع أن يجمع في نفسه كل الصفات الحسنة كما يشاء، وأنه يستمد أخلاقه من المجتمع الذي يعيش فيه، والمجتمع بدوره خاضع في أخلاقه للاحوال الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تحيط به.

أن الاخلاق في رأي ابن خلدون مألوفات وعادات أجتماعية لاتخضع للإرادة الفردية، اما الفرد الذي يحاول مخالفة المجتمع في عاداته، فإن مصيره الفشل والهوان، وعليه فأن الفرد مضطر الى أن يجاري العادات السائدة على ما هي عليه في محاسنها ومساؤئها.

اما على الجانب الحركي والتي نقض فيها ابن خلدون قانون الذاتية فأن نظرية ابن خلدون تأكد على أن المجتمع البشري في تغير مستمر جيلآ بعد جيل وليس هناك حد يقف فيه هذا التغير، على عكس المنطق القديم الذي كان قائمآ على اساس أن الاشياء لاتتغير في حقيقتها وأن خصائصها ومميزاتها تبقى ثابته خلال التغير.

سلسلة منطق ابن خلدون

المصدر: كتاب منطق ابن خلدون – د. علي الوردي