كاظم فنجان الحمامي

جريدة المستقبل العراقي الصادرة ببغداد في 30/9/2012

نحن لا نقرأ الغيب, ولا نفهم بالتنجيم, لكننا قرأنا التاريخ واستنبطنا الدروس والعبر من بطون الكتب, ولا علم لنا بالمستقبل لأنه في بطن الغيب, اما وقائع الماضي فهي مسجلة عندنا ويمكننا الرجوع إليها للاطلاع على تجارب الشعوب والأمم, والوقوف على النهايات المضحكة للطغاة والبغاة والجبابرة, فالنمرود مثلا طغى طغيانا عظيماً عندما ادعى الربوبية, وقال لقومه: أنا ربكم الأعلى, وكانت نهايته في أحقر الأماكن, ومات ميتة بشعة. فالعنجهية والغرور والاستكبار من أبشع أمراض الحكومات المتجبرة, وهي سبب انهيارها وزوالها وتعفنها في مزابل التاريخ. .

هذه أمريكا أنموذجا للطغيان والغرور العالمي الجديد, وظفت قواتها العسكرية الساحقة في استباحة الأرض, ومنحت نفسها حق التدخل في شؤون البلدان الأخرى بذريعة إرساء قواعد العدل الدولي, ربما يقول قائل: إن كوكب الأرض بحاجة إلى قوة بوليسية قادرة على نصرة الشعوب المضطهدة, وقادرة على فرض التوازن, وضمان الاستقرار, والقضاء على الإرهاب, وربما يقول قائل: إن أمريكا هي التي تمتلك القوة اللازمة لردع الأشرار, متجاهلين القنابل النووية التي رمتها أمريكا فوق رؤوس الناس في المدن اليابانية المنكوبة, ومتجاهلين آلاف الأطنان من المبيدات الكيماوية, التي رشتها طائراتها فوق الحقول الفيتنامية, ومتغافلين عن تجاربها الحالية لاستعمل غاز الكيمتريل لإبادة المنتجات الزراعية الكورية وتجويع الناس هناك, حتى صار الإرهاب الدولي صفة ملاصقة للسياسة الأمريكية, فحيثما تحل أمريكا يحل الدمار, وتتفشى الأمراض, وتتفاقم الأزمات, وتعم الفوضى. .

لم تنجح أمريكا في يوم من الأيام في مشروع واحد من مشاريعها الاستباحية, دخلت العراق غازية, مدعومة بالقوات المتحالفة معها, وغادرته بعد أن سحقت بنيته التحتية والفوقية, وبعد أن استنزفت ثرواته كلها, وها هي اليوم تتلقى الصفعة تلو الأخرى بسبب حماقاتها المتكررة, وكأنها لم تقرأ التاريخ, ولم تتعظ من الانهيارات المرعبة, التي انتهت إليها الحكومات المتجبرة, أو كأنها لا تعلم إن الثورات الحقيقة تنهض بها الشعوب المضطهدة, وتنبعث من معاناتهم وآلامهم, ولا يمكن تصنيعها وتعليبها وتصديرها لهم على ظهور حاملات الطائرات, أو تحت سرفات الدبابات. .

صفعتان عنيفتان تلقتهما أمريكا, جاءت الأولى على خدها الأيمن, وجاءت الثانية على فكها الأيسر, فسقطت بالضربة القاضية في الحلبتين الليبية والأفغانية, فالتجارب الأمريكية تعد من التجارب الناقصة, ولم يسجل التاريخ إنها نفذت مشواراً واحدا من مشاويرها المتهورة على الوجه الأكمل, فهي دائما تجيش الجيوش وتزحف بعدتها وعتادها منتهكة القوانين والشرائع الدولية لتنفذ ضرباتها الصاروخية الاستباقية, ثم تعلن عن خيبتها وانسحابها لتتخلى عن مشاريعها على حين غرة, مخلفة وراءها الدمار والخراب, من دون أن تعترف بفشلها, ومن دون أن تعتذر للأقوام, الذين جلبت لهم الهم والغم, وأحيانا تتلقى الصفعات والركلات المباشرة, لكنها لم ولن تتعلم الدرس من هفواتها المتكررة. .

بالأمس القريب كانت هي التي أشعلت فتيل الشرارة الأولى للإطاحة بدكتاتورية القذافي, وهي التي سلحت القبائل ومنحتها حرية التمرد, وأصر سفيرها في ليبيا على فحص جثة القذافي, ليتأكد بنفسه انه مات مقتولا, قبل أن يبلغ الإدارة الأمريكية بمقتله, فظهر في الصورة وهو يتلذذ بمنظر الجثة, ويمعن النظر فيها, معبرا عن شماتته, ومتبجحا بعنجهيته الاستعلائية. .
وشاءت الأقدار أن يشرب السفير من الكأس نفسه, ويذوق الموت غصة بعد غصة على يد المتمردين, الذين شجعهم هو على التمرد, فتمردوا عليه بعدما أطلقت حكومته الشرار الثانية ضد نفسها, بإشعالها فتيل الاحتجاجات الصاخبة في ليبيا, وإنتاجها لفيلم سينمائي استفزت به مشاعر نصف مليار مسلم, ووجهت لهم إهانة متعمدة, فهاجت القبائل الليبية وماجت, وهبت لمحاصرة سفيرها الذي لجأ إلى القنصلية الأمريكية في بنغازي لاعتقاده بأنها الحصن الحصين الذي يقيه غضبة الجماهير, فقتلوه شر قتلة, وسحلوا جثته في الشوارع, ولم يحميه منهم أصدقائه في المنطقة. .

وقفت هيلاري مذهولة بإزاء هذا المشهد الصاعق, لتقول: ((كيف يحدث هذا في دولة ساعدناها على التحرر, وساهمنا في إنقاذها من الطاغية ؟؟)). .

وتلقت الصفعة الثانية في أفغانستان عندما تمرد عليها المرتزقة الأفغان, الذين عملوا مع قواتها كفصائل مساندة, ومعظمهم من المدمنين على تعاطي الأفيون, فوجهوا بنادقهم إلى صدور القوات الأمريكية, وقتلوا ستة منهم, فسقطت هيلاري مضطربة المشاعر, لا تدري كيف تخفي حيرتها, وكأنها لا تعلم إن القطط الأفغانية تستطيع أن تتعلم كيف تحمل الشموع حول مائدة الجنرال, لكنها لا تستطيع التحكم بغرائزها عندما تسنح لها الفرصة لمطاردة الفئران الاسكتلندية المذعورة, فجاءت ردود الأفعال الأولى على لسان القيادة العليا للناتو, التي أعلنت عن تغيير إستراتيجيتها في (كابل) بعد أحد عشر عاماً, واعترفت إنها لم تعد تثق بأكثر من ربع مليون جندي ورجل أمن أنفقت على تدريبهم وتسليحهم حوالي ستة مليارات دولار, بعد أن اكتشفت إن معظم الهجمات التي استهدفت قواتها النظامية كانت تأتي من بنادق مرتزقتها, ما يعني إنها سجلت فشلا ذريعا, وأصبحت في وضع لا تحسد عليه, وهي التي أعلنت للملأ عن انسحابها من أفغانستان بكامل قواتها عام 2014, فلمن ستكون الكلمة على الأرض بعد تراجعها وخذلانها ؟, ولمن تكون الغلبة ؟, وكيف ستحسم الأمور في خضم هذه الفوضى التي كانت هي السبب في تأجيجها ؟. .

ان العالم كله لن ينسى جرائم الأمريكان, ولن يغفر لهم تبولهم فوق جثث القتلى, ولن يسامحهم على جريمتهم البشعة حين اغتصبوا الطفلة (عبير قاسم الجنابي) وقتلوها, وقتلوا أسرتها, ثم أضرموا النار بجثث الضحايا, ولن ينسى جريمة العريف الأمريكي المتهور, الذي خرج ليلا من ثكنته في قندهار, وشرع بإطلاق النيران عشوائيا على ثلاثة منازل قريبة من المعسكر, فأردى (11) طفلا وامرأة واحدة في منزل واحد, وأضرم النيران في جثثهم وسط الدار قبل أن يغادرها إلى المنازل الأخرى, ثم واصل قتل المزيد من الأطفال في المنازل المجاورة, فقتل منهم خمسة أطفال, وجرح العشرات. .

قد يقول قائل من المتحذلقين والمتأمركين إننا نتجنى على الأمريكان, وإننا نتعمد إلصاق تلك الخصال الخسيسة بهم, وقد يقول آخر إننا نبغضهم ونتحامل عليهم من وقت لآخر, فنبالغ في سرد مثالبهم, وسنقول لهؤلاء جميعا, إننا اخترنا من الوقائع ما اعترف بها الأمريكان أنفسهم, وما اعترف بها الجناة بعظمة لسانهم, والأنكى من ذلك كله إنهم تبجحوا بجرائمهم, وتباهوا بها, وصرحوا بحقدهم علينا, وكراهيتهم لنا بالصوت والصورة في كل الفضائيات والقنوات المتلفزة, وعلى صفحات الفيس بوك, واليوتيوب, حتى إن احدهم (ستيفن غرين) بصق على مفاهيم (هيومن رايت ووتش), فنهق بأعلى صوته خارج قاعة المحكمة, وسمعه الناس وهو ينهق, حين قال:

((I didn’t think of Iraqis as humans))

((أنا لا اعتقد أن العراقيين من البشر))

عندئذ يحق لنا أن نقول لكل المتأمركين تباً لكم جميعا, وسحقا لأعداء الإنسانية, والخزي والعار لقتلة الأطفال والنساء, بل سحقا لكل مجرم, وكل سفاح منذ بدء الخليقة وحتى يومنا هذا. . .