كما رأينا سابقآ أن ابن خلدون أستمد نظريته من آراء مفكرين سابقين، وكان هؤلاء المفكرون على أنواع شتى، لكان منهم الفقية والمتصوف والفيلسوف والعالم الفيزيائي والأديب والمؤرخ.

ظهرت الفلسفة في العالم الاسلامي على يد المعتزلة وأنتهت أخيرآ على يد ابن رشد، وفي هذه الفترة ظهر بعض الفلاسفة الكبار من أمثال الكندي والفارابي وابن سينا وابن مسكويه.

لم يتقبل العامة الآراء الفلسفية وكان ينظرون اليها كأنها مرادفة للزندقة ولذلك آثر هؤلاء الفلاسفة الابتعاد عن الاحتكاك بالعامة او رجال الدين، وأن يظلوا قابعين في أبراجهم العاجية يجترون فيها أحلامهم الطوبائية.

وشاعت في بعض الاحيان عادة إحراق الكتب الفلسفية في الشوارع والميادين العامة.

ثم جاءت الضربة القاصمة ضد الفلسفة أخيرآ على يد الغزالي.

وقد أرتأيت نقل رأي أحد أول فلاسفة المغرب من المسلمين وهو ابن باجة ويسمى أحيانآ بابن الصائع، وقد توفي بعد الغزالي بثمان وعشرين سنة تقريبآ، وكان من أجلّ مؤلفاته كتاب عنوانه “في تدبير المتوحد”.

تدور فلسفة هذا الكتاب حول فكرة “التوحد” ومعناها الابتعاد عن الناس واعتزال الهيئة الاجتماعية. ففي رأيه أن المجتمع يطغي على الفرد فيعطل ملكاته العقلية ويعوقه عن نيل الكمال بما يغمره من رذائله الكثيرة وأهوائه الجارفة. فالمجتع مرهق بأدناس العرف والعادات وأنواع الجهالات.

ولا يستطيع الفيلسوف إذن أن يصل الى الخير والحق الا إذا “توحد” واعتزل هذا المجتمع المؤلف من الجهلة والغوغاء.

بهذا الرأي يتضح لنا مبلغ اليأس الذي وصلت اليه الفلسفة الاسلامية تجاه العامة، فالعامة أصبحوا في نظر الفلسفة لا يرجى منهم خير ابدآ، والفيلسوف الذي يعيش بينهم سوف تتعطل ملكاته العقلية وكلما أبتعد كان ذلك أدعى الى سلامة تفكيره وصلاح أمره.

ظهر بعد ابن باجة في المغرب فيلسوف آخر لا يقل شهرة عنه هو ابن طفيل.

وقد أقر بنفس رأي ابن باجة من حيث أن حياة “التوحد” أدعى للسعادة ونيل الكمال من الاختلاط بالناس، ولكن العامة مع ذلك لا يجوز أن يهملوا او يتركوا من غير إرشاد، ولهذا جاء الانبياء لارشاد الناس بالطريقة التي يفهمونها.
ابن رشد آخر فلاسفة المغرب وأعظمهم، وبه انتهت سلسلة الفلاسفة المسلمين الذين كان يستمدون فلسفتهم من التراث الاغريقي القديم.

ويختلف ابن رشد في نظرته الى العامة عن ابن باجة وابن طفيل.

إن العامة في رأي ابن رشد لاينفعهم سوى الدين، والانبياء عرفوا طبيعة العامة فأتوا لهم بالشرائع التي تلائمها. والفيلسوف الذي يريد إصلاح العامة ينبغي أن يتبع معهم طريقة الانبياء، أما الافكار الفلسفية فيجب أن يحتفظ بها لنفسه ولا يبديها الا للفلاسفة أمثاله.

كان ابن خلدون مطلعآ على فلسفة ابن رشد وكان مولعآ بها في أيام شبابه بدليل أنه ألّف كتابآ لخصّ فيه تلك الفلسفة.

أن ابن خلدون يوافق الغزالي في رأيه أن الفلاسفة شذوا عن الدين وخالفوا الشرائع السماوية، ولعل ابن خلدون قد جمع بين رأي الغزالي ورأي ابن رشد ثم خرج منهما الى لاقول بأن تفكير العامة أقرب الى الصواب من تفكير الفلاسفة.

فالانسان إنما يعيش لكي ينال السعادة في دنياه وآخرته. وفي رأي ابن خلدون أن العامة أقدر من الفلاسفة على نيل السعادة في كلا العالمين. فهم في دنياهم يسيرون مع تيار الواقع الاجتماعي كيفما سار بهم، فيحصلون على الرزق والسعادة أكثر من المتمنطقون المتفلسفون.

ولما كان ابن خلدون تونسيآ ينحدر من أسرة أندلسية فلا غرو أن يكون في تفكيره الفلسفي امتدادآ لتفكير ابن رشد

هل كان ابن خلدون فيلسوفآ؟

للجواب على هذا يجب أن نحدد معنى الفلسفة والفيلسوف.

لقد كان الناس قديمآ لاسيما في الاسلام لايطلقون اسم “الفيلسوف” الا على من سار في خط الفلسفة الاغريقية واخذ يتحدث بالمصطلحات الفلسفية التقليدية وكانت هذه المصطلحات غامضة يصعب على العامة فهمها، ولذلكأختص بلقب الفلسفة أفراد معدودون من أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد.

إن الاتجاه الحديث في تعريف الفلسفة يختلف عن هذا فهي في معناها الحديث بأنها كل محاولة عقلية بأتي بها مفكر لتفسير الكون ومكان الانسان فيه.

بهذا يمكن إطلاق لقب الفيلسوف على من نقد الفلسفة الاغريقية ومن تابعها ايضآ، أما اختلافهم في المنطق فهو أمر يخص الوسيلة في التفسير، إنما هم في الغاية سواء.

أن بعض المؤلفين الباحثين توسعوا في تعريف الفلسفة بحيث جعلوا كل إنسان يعيش في هذه الدنيا فيلسوفآ، إذ هو لا بد أن تكون لديه فكرة عامة يحاول بها تفسير كنه الكون وكيف يسلك الانسان تجاهه.

وبالطبع يختلف الناس في ذلك، فمنهم الساذج الذي يتصور الكون مملؤآ بالجن والعفاريت، ومنهم المفكر المتعمق الذي يستمد تفسيره للكون من أحدث ما توصل اليه الفكر البشري من مفاهيم فلسفية او نظريات علمية.

مهما يكن الحال، فإننا حين ننظر الى ابن خلدون في ضوء التعريف الحديث للفلسفة، لانملك الا أن نعدّه فيلسوفآ من الطراز الاول، فهو قد أستند في بناء نظرته حول الكون والمجتمع على مختلف ما توصل اليه الفكر البشري من علم وفلسفة، خلال العصور التي سبقت عصره.

لقد ظهر في الاسلام فلاسفة مبدعون لا يقلون في روعة إبداعهم عن بعض فلاسفة العصر الحديث، منهم ابن خلدون الذي أبدع علمآ لم يستطع الفكر البشري أن يبدأ به الا بعد تطور بطيء استمر خمسة قرون.

خلاصة رأي ابن خلدون في الفلسفة أنها ليس فيها سوى ثمرة واحجة هي شحذ الذهن في ترتيب الادلة. وينصح الناظر في الفلسفة أن يكون حذرآ فلا ينظر فيها الا بعد الامتلاء من العلوم الشرعية، ليستطيع الاخذ من الفلسفة محسنها ونبذ مساوئها

المصدر: كتاب منطق ابن خلدون- د. علي الوردي