قبل الخوض في شخصيته وسيرته وأفكاره فأني أنوه بقدرة المترجم محمد بدر الدين خليل الفائقة واللغة الادبيه العالية التي استطاع المترجم من خلالها ان يجعل الكتاب وكأنه كتب اصلا بالعربية!
وتسائلت ان كانت الترجمة بهذه الروعة من اللغة والاسلوب فكيف تكون لغة المؤلف الاصلية التي هي بدون شك تفوق بكثير الترجمة التي غالبآ ما تُفقد الكلمات واللغة الكثير من اصالتها وخصوصيتها.
نعود الى روسو ….
فيلسوف وكاتب سويسري عاش في القرن السابع عشر.
وتعتبر “الاعترافات” أدق وأصدق مصدر لسيرة هذا المفكر العبقري، وكان من أهم المميزات التي كتبت لها الخلود، أنها كانت أول عمل أدبي يكشف صاحبه عن نفسه، فيظهرها على حقيقتها دون اي زيف او تستر في ثلاثة اجزاء.
يقول عن مشروعه هذا:
“انني مقدم على مشروع لم يسبقه مثيل، ولن يكون له نظير. اذ ينبغي ان أعرض على أقراني أنسانآ في أصدق صور طبيعته .. وهذا الانسان هو: أنا! .. أنا وحدي!.. فأني اعرف مشاعر قلبي، كذلك أعرف البشر! ولست أراني قد خلقت على شاكلة غيري ممن رأيت، بل أنيي لاجرؤ على أن أعتقد بأنني لم أخلق على غرار احد ممن في الوجود!.. واذا لم أكن أفضل منهم، فأنني – على الاقل – اختلفت عنهم!..”
توقعت ان اترك الكتاب بعد فصول قليلة .. هذا ماكنت افكر به عندما شرعت بالقراءة وانا انظر الى المجلدات الثلاث بتوجس وخيفة!!
لماذا؟ لانك غالبآ ما تجد الكثير من الغث والتجاوز والحشو في كتب السيرة الذاتية على الاخص، فما بالك بمؤلف فرنسي مشهور! كنت اتوقع ان اجد من القبيح والمستهجن التي يجردها المؤلفين بذريعة الحرية والشفافية والخوض في مايستفز النفس النقية ويؤذي الارواح السوية.
انتهيت من الجزء الاول والحقيقة اجد الكلمات تفر مني لكي أوصل انطباعي، فقط بلغ روسو مبلغآ خياليآ في رقيه وفطرته السليمه وذوقه الرفيع واحساسه المرهف. لم يكن ملاكآ ولكنه ليس كباقي البشر وقد حبيّ بنعم وفطرة ومواهب فريدة جعلت منه اسطورة حقيقية.
عاش طفوله تقرب المثاليه مع ان امه كانت قد توفيت عند ولادته، وقام والده برعايته وتربيته وكان رجلا مستقيمآ وقورآ من أتباع المدرسة القديمة في الكياسة والادب، وعماته اللاتي كن رمزآ للتقوى والمحافظة الى درجة لم تكن مألوفة حتى بين النساء ذلك الزمن، مما اكسبه نفس زكية ميالة الى العطاء وحب الناس بطريقة روحانية لايجيدها ولايقدر عليها اغلب البشر، ليس هذا فحسب فقد وّلدت لديه اسس هذه التربية السليمة استبشاعآ للفسق وسخطآ للفجور وصيانة عن كل شائبة.
اضطر الى ترك بيته وبلده – جنيف – وبدء مشوار الترحال والتجول بين البلدان مشيآ على الاقدام عندما بلغ السادسة عشر من عمره وظل لاكثر من خمس سنوات وهو يتنقل من مدينة الى اخرى بحثآ عن منصب – عمل – ولقمة هنيئة شريفة.
يقول: “المشي ينعش نشاطي ويسمو بأفكاري”، فكان ينتقل من بلد الى آخر لايشغله الا رؤية الريف والمناظر الممتعة التي كان مبهورآ بها ولها تأثير عظيم على اسلوب عيشه فكانت روحه مبتهجة، مطمئنه، منطلقة عندما يكون في احضان هذه الطبيعة وكأنه هو المسيطر عليها كما كان يشير.
وكان يقدّر الطعام كثيرآ وله شهية متفتحة وصحة طيبة، قضى معظم حياته فقيرآ ولكن وجبه شهية كانت تسعده وتجعله في رضا تام. ففي كل مالاقى في مقتبل عمره وكل ماكان يجري من حوله مما لا يلائم ذوقه، فقد كان كل شيء يروق لفؤاده وقادر على بعث السرور في نفسه.
شُغف بالقراءة والمطالعة في عمر الخامسة او السادسة عندما كان يتناوب القراءة مع والده بعد العشاء يوميآ بقصد التدريب على القراءة مالبث ان انقلب الى شغف ومتعة، فكانا ينفقان ليالي بأكملها لايتحولان عن الكتاب حتى الافراغ منه، وهو اسلوب خطير استطاع من خلاله وفي امد قصير ان يكتسب حذقآ بالغآ في القراءة والفهم، ليس هذا فحسب، بل اصبح لديه ادراكآ مميزآ نحو مشاعر الحياة والاحساس بكل شيء وخلق خيال خارق عن الحياة الانسانية لم يستطع ان يبرأ منها طيلة حياته.
حتى انه تعلم القراءة بتأمل وفي غير أسراع، فأصبح يفكر في اللغة والاسلوب وبلاغة تركيب العبارات، واصبح قادرآ على التمييز بين الفرنسية الفصحى من التعبيرات الاقليمية.
ومن ميزات شخصيته البارزة هو سرعة تأثره بأي امر يجتذبه فيصبح مولعآ به لايستطيع التفكير بأي شيء سوى الامر الذي استحوذ على تفكيره، يقول:
“وهذه ميزة أخرى من الميزات البارزة في شخصيتي، ففي غمرة أنغماسي في أي مسلك في الحياة، يستطيع أي امر تافه ان يجتذبني، وان يحولني، وان يستأثر بأنتباهي، ثم يغدو شغفآ.
واذ ذاك يصبح كل شئ منسيآ، فلا اعود افكر في غير الشئ الجديد الذي يسحتوذ على اهتمامي.”
وهذا ما يفسر اقتحامه وشغفه في فن الموسيقى والكتابة والادب فيما بعد. وقد اراد ان يتخصص في علم النبات والطب والفلك ووجد في نفسه ميلا واندفاعآ ولكن لم تسعفه الفرص ليحقق ماكان يدور بخلده.
وكان قد عقد العزم على اطلاع القارىء على نفسه بشفافية تحت جميع الاضواء لكي يكون الحكم في الاخر للقارىء في الحكم على مبادئه ونهجه، وكانت هذه الاعترافات – في غايتها – دروس اجتماعيه وتربويه.
واليك ماكتبه المفكر الاستاذ سلامة موسى في عدد 19 عام 1955 من جريدة أخبار اليوم ..
” .. واعترافات جان جاك روسو من الكتب التي كان يجب ان تترجم الى لغتنا قبل 100 او 150 سنة .. فلقد تغيرت اوروبا بتأثير أفكار هذا الاديب. ونستطيع ان نعزو أهم التطورات التي حدثت في هذه القارة الى آرائه، التي يتخلص مغزاها في كلمات معدودة، هي: ان الطبيعة حسنة، والانسان طيب، ولكنهما يفسدان بالمجتمع السئ .. فما أحوجنا في البلاد العربية الى هذه الخمائر!”.