مراجعة كتاب أنتحار الغرب لمؤلفه: ريتشارد كوك وكريس سميث
قلت في تويتر: أشعر بالغثيان والسم يجري في عروقي مع كل فصل وانا أقرأ هذا الكتاب.
سألوني: لماذا تشعرين بالغثيان؟ وماذا في الكتاب؟
قلت: المبالغة تفوق الحد واجحاف وجهل مطبق بحق الحضارات السابقة وكذب يفضحه الواقع وماعاصرته البشرية من ويلات ادت الى انتحار البشرية.
صحيح ان الكتاب فيه كمية هائلة من الاطراء والتمجيد لحضارة الغرب بشكل مفخم وبلهجة شديدة الغرور، نابعة من الغطرسة والاعتزاز بالنفس والفخر بالانتماء الى تلك الحضارة، فهي كما يقول ريتشارد كوك: “قد حققت في القرنين الماضيين ما لم يسبق لاي حضارة في التاريخ ان نجحت في تحقيقه، بتحقيق مجتمع وثقافة غنيين غنى لامثيل له، ليس على مستوى المعيشة فحسب، ولكن في شيء اثمن واسمى، انه غنى في الحرية”.
“الحرية من الجوع، وحرية من الريح، ومن المطر، والبرد، والحر، والجهل، والمرض، والفقر، والعمل الشاق، واضطهاد البشر، والاعمال القسرية، والرق، وخدمة العسكرية الطوعية، واللصوص، والعنف، والاباء، والرؤساء، ومن الاكراه الحكومي، والتمييز العنصري على اساس الجنس او العرق او القومية او الخلفية، وحرية من اي شيء ينكر الانسانية”.
“وبهذه المعايير تكاد تكون الحضارة الغربية اقرب الى الكاملة او أفضل بكثير من اي حضارة اخرى، ماضية او حاضرة، وانها اليوم اقرب الى المثل العليا التي يطمح اي مجتمع تحقيقها.”
كان هذا هو العرض التاريخي لاسطورة الغرب، مع اشارة الى المخاوف والمشاكل التي يجابها اليوم، وما اذا كانت هذه المخاوف حقيقة في تهديد كيانه وامبراطوريته.
لايستطيع أحد أن ينكر الكثير من الصحة في هذا الاستطراد.. فكلنا شهد العلم والتطور والنظام واختلاف مستوى المعيشة في المدن المتقدمة.. وأيضآ شهدنا الخلق الكريم والتواضع وحب الخير والابداع في كل نواحي الحياة.
وان العيش في تلك الدول والاندماج فيها له اثرآ ايجابيآ وعجيبآ لايمكن تجاهله، بالاخص لمن يحترم الاستقامة والمبادىء ويقدس القيم، فأنه سيجد تناغمآ وبيئة خصبة تساعد على رعاية هذه المبادىء والارتقاء بها الى درجات أعلى وأكثر سموآ، بسبب الحرية والحقوق الشخصية التي تتيحها للفرد في ان يخلق مجتمعآ خاصآ بمعايير وقيم فردية من دون تأثير خارجي او تضييق او دكتاتورية.
وعلى الطرف الآخر، يكون تأثيرها مدمرآ وبالغ الخطورة عندما لايمتلك ذلك الفرد قيمآ ثابتة وشخصية واضحة، هؤلاء مصيرهم الذوبان في المجتمع الغربي ونكران الذات والتركيز على المظاهر الخارجية، وبالرغم من ذلك لايتقبلهم المجتمع الغربي “كغربيين” مثله.
فالغرب أمة يجمعها تاريخ وعقيدة وبيئة وتاريخ ورقعة جغرافية وعرق واخلاق وأعراف لايمكن لااي أحد آخر ان يتبناها او بمعنى آخر ان يصبح “غربيآ” مهما حاول، فأنه سوف يٌلفظ كما تٌلفظ الشوائب الغريبة في الجسم.
فالمهاجر الايرلندي او الانكليزي او الاوكراني او الفرنسي هو بالاصل “أوربي” من المهد الى اللحد.
أن هذه الحضارة التي وصلت القمة في العلم والعبقرية والهيمنة الدولية، دمرت نفسها بنفسها وليس بأعدائها (وسوف ارجع الى اعدائها بعد قليل)، دمرتها بالحرية والعلم.
ولأبدأ بالعلم .. حيث كان تطور العلم والدراسات والابحاث والاكتشافات في البداية متسندة الى الايمان بعظمة الخالق وقدرة الانسان على تسخير هذا الكون لتحقيق العدل والمساواة .. ولكن مع زيادة العلم وتوغلهم لكشف الحقائق والالغاز بدا الكون محيرآ وبعيدآ كل البعد عن أدراكهم واحيانآ مناقضآ لما توصلوا اليه من حقائق كان يعتقد بأنها ثابتة.
يقول ديكارت: “ان الارادة الحرة هي انبل شيء نتسطيع ان نملكه، وذلك لانها تجعلنا في اسلوب معين مساوين لله وتستثنينا من كوننا رعاياه”.
ثم جاء علم الوراثه والبيولوجيا وعلم النفس وغيرها من العلوم التي دمرت مفهوم الانسان كمخلوق سماوي، وكانت تلك بداية سقوط الدين وانفصامه عن العلم .. وكنتيجة طبيعية .. كان الالحاد.
أصبح الكون لغزآ محيرآ والعلم متناقضآ والحقيقة رمادية قاتمة.
وأصبح العلم عالة على البيئة وأعظم تهديد لاستمرار كوكب الارض بعد ان أنهكت مواردها الصناعات الثقيلة والآلات الضخمة، صار الهوء ملوثآ والتربة عقيمة والماء شحيحآ وبرزت مشاكل الاوزون والطاقة وبدأت الطبيعة الجغرافية للعالم تتغير بسبب الكوارث الطبيعية الناشئة من انتهاك الطبيعة.
وأكبر جريمة تسبب بها العلم، هو صناعة الاسلحة التي بلغ تطورها اضعافآ مضاعفه لاي صناعة اخرى، واصبح الكون كله مهددآ بالفناء بسبب قنبلة ذرية اوبيولوجية او هيدروجينة او مالاتدركه العقول والضمائر السوية.
وأصبحت جميع الدول تتنافس بضراوة على حيازة هذا الاسلحة، وترصد اعظم الميزانيات واضخمها لتمتلكها.
أما الحرية، فأنها عندما نهضت بأسم المسيحية وكانت تدعو الى القيم الانسانية العليا واحترام حقوق الانسان، والمساواة، والمسؤلية الذاتيه، فاستطاعت ان تطيح بالملوك والانظمة الاقطاعية والتوجه الى تطوير الذات والصناعة والتجارة والمهن الحرفية ومختلف العلوم الاخرى، وكلما تقدم الانسان ازداد النمو الاقتصادي الذي بلغ اثره في كل نواحي الحياة.
وبعد غياب الدين وسقوط الايمان، انقلبت الحرية الى فساد وفحش وانانية ولامبالاة وانتهاك لكل حق وعادات واعراف وشريعة.
واصبحت الاشارات المنذرة واضحة في كل الغرب، مع وجود دلائل كثيرة على التفكك الاجتماعي، والاستهلاكية القسرية، والانحطاط، والتواكل، والانانية الشخصية الساحقة، والتراجع الى ظلمات النفس.
وكان حصيلة هذا التردي النفسي، ارتفاع معدلات امراض الاكتئاب والمخدارت والامراض العقلية والانتحار بنسب تفوق بكثير الامم المتخلفة ودول العالم الثالث.
وكان لانتحار الديمقراطية ومصداقيتها اثرآ بالغآ على بقية شعوب العالم، فبرز الكثير من الاعداء والحاقدين لهذه الحضارة بسبب الاستعمار والقوة التي فرضتها بالاخص على دول العالم الثالث بأسم الديمقراطية والليبرالية لنهب خيراتها الطبيعية ومصادرة علمائها وجعلها دولآ مستهلكة لاتقوى على التصنيع والانتاج لكي تبقى أفضل سوق لتصريف منتجاتها والسيطرة على مواردها.
وعلى هذا الاساس ترعرعت ظاهرة الارهاب وصار العالم كله مكانآ ضيقآ ومرعبآ بالاخص للدول الامريكية والاوربية التي تزعزعت حريتها بسبب شدة التدابير الامنية، خوفآ من الارهاب والهجمات المعادية.
كانت الشيوعية والفاشية أبغض اعداء الغرب واكثرها مقتآ.. واليوم أصبح الاسلام بشكل مبطن وغير معلن العدو الجديد الذي يهدد الامبراطورية الامريكية والغربية!!.
مع ان الخطاب الرسمي يشمل فئات خاصة يطلقون عليها الثورية الاسلامية والاسلامية المتطرفة، وغيرها من العنواين المبتدعة، الا أن الحرب “الرسمية” التي شنوها على المسلمين أبتداءآ من حرب الخليج عام 1990 وحتى الان كانت شاملة ومعلنة، واعظم ضحاياها من المدنيين والابرياء والمحافظين والمعتدلين، بحجة القضاء على الارهاب، وايضآ لتعميم الحرية والديمقراطية “الغربية” في تلك البلدان!!!.
ان عدو الحضارة الغربية اليوم هو الاسلام وليس المسلمين! في قيمه وحريته وعدالته وشريعته والحقوق التي آتى بها والانظمة التي شرعها لتحقيق العدل والمساواة .. لم يستطع المسلمين الحفاظ على دينهم وتركوا دورهم في الحياة وصار تفاعلهم ميتآ .. ولاخطر او ضرار من الاموات!.
ولكنها مبادىء هذا الدين الحنيف التي لاتموت ولاتزول لانها ليست من صنع بشر، ولم تتعرض الى تحريف وابتداع، وبقيت ناصعة ومتوهجة لكل من يبحث عن الحق وينشد الكرامة الانسانية.
فهل تستطيع الحضارة الغربية ان تنتصر على عدوها الجديد كما تغلبت على النازية والسوفيتية؟
هذا هو عنوان الصراع الدامي الذي نعيشه اليوم في الشرق والغرب .. انها حرب افكار ومباديء .. حرب أنسان مشوش وضائع ومهمش لم تسطع ثروات الغرب وتقدمها العلمي والاقتصادي ان تسعده وتوفر له الاستقرار النفسي فأنطلق يبحث عن الحقيقة التي ترد اليه “الروح” التي اغتيلت بالمادة وانفصال العلم وفوضى الحرية.