إن أثر الغزالي في تفكير ابن خلدون كبير جدآ يصعب على الباحث استقصاؤه، وربما صحّ القوال إن ابن خلدون تأثر بأفكار الغزالي أكثر مما تأثر بغيره من مفكري الاسلام.
يعتقد الغزالي أن الاخلاق من الامور النسبية الاعتبارية ليس فيها شيء حسن او قبيح بذاته، فقد اعتاد الانسان أن يصف الشيء بأنه حسن او قبيح تبعآ لما يوافق غرضه منه او يخالفه.
أن الانسان في رأي الغزالي شفوف بنفسه وهو لذلك يحكم على الامور بالحسن والقبح بوجه مطلق، وان غيره قد يكون حكمه معاكس لرأيه، ولذلك لابد للناس أن يعتمدوا في أحكامهم على شرع يأتي من وراء الغيب ليرشدهم الى ماهو حسن وقبيح فيها.
ويطبق الغزالي مفهومه هذا على الميول والغرائز البشرية كحب المنافع الدنيوية والشهوة والغضب وغيرها، التي كان يعدها الفقهاء والواعظون من الامور القبيحة ويشجبونها شجبآ مطلقآ، اما الغزالي فيرى أنها قد تكون حسنة او قبيحة، كمثل أن يغضب الانسان من أجل الباطل، او يرغب امرأة محرمة عليه، او يحب المال لكي ينفقه في سبيل الشيطان، لكنه أذا قصد بها أغراضآ مشروعة فأنها تصبح أعمالآ مشروعة يؤجره الله عليها.
مما يلفت النظر ان ابن خلدون في نظريته لموضوع العصبية يذهب فيها مذهب الغزالي تمامآ، فهو يقول إن الشرع قد ذمّ العصبية كما ذم الشهورة والغضب، ولايعني ذلك أبطالها وتركها بالكلية، فأن العصبية في رأي ابن خلدون ضرورية للملة وبوجودها يتم أمر الله. والشرع إنما ذمّ العصبية لكي ينهى عن استخدامها في الباطل، أما أن أستخدمت في الحق لابد أن تكون حسنة غير مذمومة.
جاءت الضربة القاصمة ضد الفلسفة أخيرآ على يد الغزالي.
كان يملك قلمآ سيالآ وأسلوبآ في الكتابة رائعآ، فاستخدم ذلك في مهاجمة الفلسفة وفي تبيان تهافتها ومخالفتها للشريعة وكان له في هذا السبيل أثر يندر أن يدانيه فيه أحد في الاسلام.
يقول الغزالي إن الوحي هو المصدر الوحيد للوصول الى الحقيقة، وليس للفلسفة أن تناقض الوحي، فالوحي يأتي من الله الذي هو علام الغيوب، أما الفلسفة فليست سوى أوهام وأباطيل تنشأ عن عقول محدودة. أن هذا العقل قد يصلح في أمور الدنيا الضيقة، إنما هو لا يصلح في أمور الكون الاكبر الذي لايعرفه سوى خالقه.
أن ما يعيب الفلسفة في نظر الغزالي هو أنها تستخدم المنطق في كل الامور، فلا تميز بين الامور التي جاء بها الشرع وتلك التي توصل اليها العقل البشري وهي لذلك كثيرآ ما تأتي بما يخالف الشريعة وهذا كفر شنيع أعاذنا الله منه.
حاول ابن خلدون توسيع رأي الغزالي ليشمل مختلف الظواهر الاجتماعية كالملك والجاه والهجرة والتعرّب وغيرها، ويمكن القول إن ابن خلدون كان في هذا يتبع مبدأ “الغاية تبرر الوسيلة” وهو يقرب في ذلك من مكيافللي كما هو معروف.
المصدر: كتاب منطق ابن خلدون – د. علي الوردي