سمارة نوري
الطوبيا او المجتمع المثالي Utopia
علي عزت بيجوفيتش – رئيس دولة البوسنة والهرسك
الانسان فرد مستقل في حقيقته، يأنف الحياة في قطيع وهو لااجتماعي بطبيعته، لكن يوجد نوع من الناس اقل أنسانية من غيرهم، يتقبلون الوظيفة والنظام والتماثل وسيادة الدولة فوق الفرد.
الانسان كعضو في المجتمع، مسلوب الفردية ولاحقوق شخصية له انما له وظيفة آلية محددة، فهو ليس انسانآ بالمعنى الحقيقي بل حيوان اجتماعي او “حيوان ذو عقل”.
الاخلاق ان لم تكن نابعة من وعينا الذاتي وارادتنا، انما مجرد املاء لما يجب ان نفعله كما هو الحال في المجتمع الطوباوي، وهي اشارة الى مجتمع ليس للفرد فيه مكان الا انتمائه كعضو متماثل في مجموعة مجتمعية لها وظيفة معينة لانتاج معين.
الاخلاق في هذه المجتمعات لامعنى لها مفصولة عن الفرد المستقل، فأكثر السلوك انسانية اذا صدر من شيوعي لايمكن اعتباره سلوكآ اخلاقيآ، وهذا هو معنى التأكيد الماركسي بأنه لاتوجد اخلاق في الشيوعية، لانه لا يعترف الا بوظيفة
الفرد في الآلية الاجتماعية، تنظر الى الحياة الخارجية فقط للحياة الانسانية على انها قضية انتاج واستهلاك وتوزيع، وهذه الامور يمكن معالجتها بالعلم وتطبيقاته من خطط وعلاقات وضغوط ومقاومات ومؤسسات وقوانين وسجون واجراءات.
الانسان في المجتمع دائمآ يتشوق لان يحيا ويفكر ويتصرف كفرد وليس كقالب ضمن مجموعة، واي نظام لايأخذ بنظر الاعتبار فردية الانسان ولايراه الا عضوآ في مجتمع بالرغم من كل الحقائق، هو نظام خاطيء.
فالنملة في سربها، والنحلة في ممكلتها تتصرف بشكل آلي ووظيفي تبعآ “لغريزتها” وليس لها القدرة على الاختيار لتجنب العمل والحياة بدل الموت. أما الانسان فلديه هذا الاختيار ويجب عدم تجاهلها، فأما ان يوجد نظام مناسب لكائنات موهوبة قادرة على الاختيار، او ان يكون النظام السبب في تدمير هذه القدرة الاختيارية بالقوة او عن طريق التدريب!!!!
وهذا هو السبب ان هذه الانظمة تتجنب الحديث عن مشكلات الناس من حيث هم افراد، وتستخدم مصطلحات كالمجتمع والانتاج والتوزيع والطبقات والجماهير.. الخ. انهم يلغون حقوق الانسان في مقابل حقوق الشعب وحقوق المجتمع!!!
هناك نوع من الناس يحبون النظام ويعشقون التنظيم الخارجي، فالبيوت متراصة في صفوف ذا واجهة موحّدة، ويحبون الزي الرسمي الموحد، والعروض والاستعراضات، وغيرها من الاكاذيب التي تزين الحياة، هؤلاء يتمتعون بعقلية الاتباع .. انهم ببساطة يحبون ان يكونوا اتباعآ، يحبون الامن والنظام والمؤسسات والثناء من رؤسائهم، هم مخلصون ومسالمون ولهم ضمائر حية، ولكن يحبون ان يكون عليهم سلطة.
في المقابل، يوجد أناس اشقياء ملعونون، في ثورة دائمة ضد شيء ما، قليلا مايتحدثون عن الخبز ولكن كثيرآ مايتحدثون عن الحرية، قليلا مايتحدثون عن السلام وكثيرآ مايتحدثون عن الشخصية الانسانية، ويؤمنون بأنهم هم الذين يطعمون الملك وليس العكس، هؤلاء “الهراطقة” المتمردون لايحبون السلطة، ولاتحبهم السلطة. في الاديان يوقّر الاتباع الاشخاص والسطات والاوثان، اما عشاق الحرية المتمردون فأنهم يمجدون الله فحسب.
هناك فرق بين المجتمع والجماعة.
المجتمع، هو مجموعة خارجية من الافراد تجمعوا على اساس المصلحة.
الجماعة، فهي مجموعة داخلية من الناس أجتمعوا على اساس من الشعور بالانتماء.
المجتمع قائم على المطالب المادية، والجماعة قائمة على المطالب الروحية. الناس في المجتمع اعضاء مجهولون تجمعهم المصالح وتفرقهم، أما في الجماعة فهم أخوة تجمعهم أفكار واحدة كما تجمعهم الثقة.
لقد تحدث المسيح عن الحب بين الناس وكان حقآ، وتحدث ماركس عن الاستغلال الخارجي وكان حقآ ايضآ، ولكن بينما كان المسيح يفكر في جماعة الناس، كان ماركس يفكر في المجتمع.
لذلك انتشرت مؤخرآ في امريكا موجة نظام التعدد العرقي والثقافة المتنوعة Community
لما له من تأثير عميق على الاخلاق والقوانين والعلاقات وحتى الاقتصاد.
ان المجتمع الطوباوي يهدف الى انشاء ممكلة أرضية بدلا من المملكة سماوية، تتعامل مع المجتمع لا مع الانسان، فلم يكن المسيح مصلحآ اجتماعيآ وانما كان مشغولا بمصير النفس الانسانية وخلاصها، فالدين لايتجه الى تنظيم العالم الخارجي، فهو شعور والتزام وليس رفاهة ولاطريقة للمعيشة أفضل،بينما كانت الطوبيا مجرد حلم انساني ساذج عن مجتمع مثالي يسود فيه الاتساق والسلام الابديين. ولاشيء مشترك بين الدين والطوبيا فالاول ينتمي الى ممكلة السماء، وينتمي الثاني الى مملكة الارض.
لذلك يتحدث الماديون عن “المستغلين”، بينما يتحدث دستوفيسكي عن “المذلين المهانين”.
في المجتمع المثالي –الطوبيا- لايوجد جيران ولااصدقاء .. لقد اختفوا في علاقات الانتاج والاستهلاك وتوزيع العمالة .. فالجار لم يحظ بحب او كره .. لم يكن خيرآ ولاشريرآ .. لم يكن لديه روح، كان فردآ مجهولا، وان كان كاملآ .. فرد له مكانة في المجتمع المثالي، وله وظيفة يؤديها من المهد الى اللحد.
الطوبيا صحيحة أن كانت فكرة ان الانسان “حيوان ذو عقل”!! ولكي يكون هذا الانسان صالحآ في هذا المجتمع لابد من تصميمه طبقآ لنظرية “داروين”، فالعلاقة مباشرة بين الطوبيا ونظريات التطور عن أصل الانسان. اما الانسان الحقيقي الفردي الرومانسي فهو لايصلح ان يكون عضوآ صالحآ في هذا المجتمع، ولابد للقضاء على كل شيء انساني، على الاخص فردية الانسان وحريته لتحقيق الطوبيا.
ولذلك فأن الطوبيا عقيدة الملحد وليست عقيدة المؤمن .. واذا كان الانسان فردآ وليس “حيوانآ كاملا” فأن هذه العقيدة مجرد وهم ….
لقد اصبح المجتمع المثالي مستحيلآ منذ بداية الخلق .. لحظة “أنسنة الانسان” .. فمنذ تلك اللحظة بدأ الانسان يواجه صراعآ أبديآ، يعصف به القلق والاحباط .. انها الدراما الانسانية.
“وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو” سورة البقرة، آية 36
أن المجتمع المثالي سلسلة متصلة مملة لاتنتهي .. يتم فيها سلب الشخصية من الناس جيلآ بعد جيل .. سلسلة ليس فيها سوى الانتاج والاستهلاك ثم التلاشي في ظلمات الموت .. او الخلود “الخاطيء”. أن حقيقة الخلق وارادة الله في وجود الانسان، جعل هذه الالية وهمية ومستحيلة، ومن هنا جاء تعصب الماديين ضد الدين وانكار الألوهية.
أن الاعتقاد في أمكانية مجتمع مثالي هو فكرة ساذجة قائمة على انكار النفس الانسانية، واولئك الذين يتجاهلون الروح الانسانية والشخصية الانسانية هم الذين يؤمنون “بتدجين” الانسان وادماجه في مجتمع ليصبح قطعة من الآلية الاجتماعية.
وعلى عكس ذلك، أذا آمنت بروح الانسان وعرفت بأن أخص خصائصه هي فرديته التي لاشفاء له منها، تبين لك أستحالة قولبة الانسان، او تدجينه او تسكينه، فهو ما أن يحصل على حياة الدعة والرخاء حتى ينبذها بأزدراء ويهب باحثآ عن حريته وحقوقه الانسانية. أن الانسان “حيوان يرفض أن يكون كذلك”.
المقال السابق: الاسلام بين الشرق والغرب 1 – داروين .. وتطور الانسان
المقال السابق: الاسلام بين الشرق والغرب 2- الفن والاخلاق
المقال التالي: الاسلام بين الشرق والغرب 4 – الأسرة