تعتبر نظرية ابن خلدون لغز غامض، فالرجل قد أبدع نظرية اجتماعية كبرى سبقت زمانها ببضعة قرون.
كان المفكرون قديمآ ولايزال الكثير منهم حتى يومنا هذا لايرون في هذه الطفرة لغزآ ولايشعرون بحاجة الى تفسيرها، فهم يعتبرون أن التوصل الى المعرفة الصحيحة في اي مجال إنما هو أمر جبل عليه العقل السليم.
وهذا الرأي غير مقبول اليوم في علم الاجتماع الحديث، فالاتجاه العلمي يميل اليوم الى القول بأن كل أنتاج فكري سواء أكان صحيحآ او مغلوطآ، لابد أن تكمن وراءه عوامل خارجية تمكنه من الظهور. يحاول بعض الناس تعليل طفرة ابن خلدون بقولهم إنه كان عبقريآ.
إن العبقرية في حقيقة أمرها ليست سوى ظاهرة نفسية اجتماعية وهي إذن لايمكن أن تقوم بذاتها معلقة في فراغ، إنها كغيرها من الظواهر النفسية الاجتماعية لابد أن تكون نتيجة عوامل خارجية تساعدها على الظهور في إنسان ما دون غيره ممن يماثلونه في الذكاء والتفكير.
لقد جاء الباحثون بالعديد من الآراء في تعليل طفرة ابن خلدون الفكرية، منهم على سبيل المثال لا الحصر طه حسين، غوتيه، لاكوست، بوتول، ساطع الحصري.
خلاصة رأي بوتول أن المجتمع الذي عاش فيه ابن خلدون قد تميز بظاهرة اجتماعية قلما نجدها بارزة مثل هذا البروز في مجتمع آخر، وتتمثل في التباين الصارخ بين أقصى أنواع البداوة وأقصى أنواع الحضارة.
يقول: “ومن شأن هذا الهرج والمرج الخطر الهادر الذي دام عشرين عامآ أن يٌتعب ابن خلدون دائمآ، فانزوى في قلعة صغيرة بجوار تبارت حيث انقطع للبحث أربع سنين، فهناك ألّف قسمآ كبيرآ من تاريخه العام كما وضع المقدمة، وكان قسم يذكر منها نتيجة تأمل وتعليم لما لاقى من إخفاق.”
ويضيف بوتول الى ذلك قائلآ بأن ابن خلدون لم يكن ذا ذكاء عادي، بل كان عبقريآ، وميزة العبقري أنه معرض للحيرة والتساؤل تجاه الامور العادية التي لاينتبه اليها عامة الناس، ومثله كمثل نيوتن الذي اكتشف قوانينه الكبرى إثر انتباهه لسقوط تفاحة بجانبه.
للأستاذ ساطع الحصري رأي في هذا الصدد يمكن اعتباره متممآ لرأي بوتول، وهو لا يقل عنه أهمية من بعض الوجوه.
خلاصة رأي الحصري: أن ابن خلدون نشأ في كنف أسرة كانت تتقلب بين رئاسة علمية ورئاسة سلطانية وكان من شأن هذه البيئة العائلية أنها أنتجت في ابن خلدون نزعتين قويتين، حب المنصب والجاه من ناحية، وحب الدرس والعلم من ناحية أخرى.
ويضيف د. علي الوردي تعليله فيقول: نحن نعتقد أن طفرة ابن خلدون لايمكن ان تكون نتجية عامل واحد، وأن جميع حوادث التاريخ الكبرى لابد أن تتجمع في إنتاجها عوامل متنوعة، ثم يقع حافز تافه، هو الذي يسميه المؤرخون بالسبب المباشر، فيكون بمثابة الزناد للبارود او بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، وبهذا الحافر تنطلق الحادثة الكبيرة وكأنها انفجار.
لقد أصاب بوتول حين لاحظ أن حياة ابن خلدون أصبحت بعد كتابة المقدمة أكثر هدوءآ، وأشد أنهماكآ في العلم وبعدآ عن السياسة، مما كانت عليه قبل كتابة المقدمة.
أن السنوات الاربع التي قضاها في الاعتزال والتأمل والكتابة، جعلته عارفآ قدر نفسه ومدى كفايتها، فهو لم يعد ذلك السياسي الطموح اللاعب على الحبال، بل أصبح ميالآ الى الوقوف على التل يتفرج منه على مسرحية الحياة دون أن ينغمس فيها انغماسآ كبيرآ.
أن القرن الثامن الذي عاش فيه ابن خلدون كان من أسوء القرون التي مر بها الاسلام من الناحية السياسية.
فقد جاء هذا القرن عقب سقوط الخلافة العباسية في بغداد على أيدي المغول المتوحشين، وشهد القرن ذاته هجوم التتر بقيادة السفاك تيمورلنك على البلاد الاسلامية في المشرق، كما شهد تحفز النصارى والغرب للقضاء على الدويلة الباقية للاسلام في الاندلس.
كان الاسلام يمر آنذاك بتلك الفترة التي تلت سقوط الدولة العباسية وسبقت ظهور الدولة العثمانية، وهي فترة يصعب أن تمر على المسلمين دون أن يشعروا بالشيء الكثير من التشاؤم ومرارة الخيبة، لقد افتقدوا حينذاك الدولة الكبيرة المنتصرة التي تكافح عن دينهم وترفع اسمه عاليآ بين الامم.
لابد للفقهاء والمفكرين المسلمين من أن يتأملوا في هذا الوضع وأن يبحثوا في أسبابه، ومن الممكن القول إن الكثيرين منهم أخذوا يميلون الى تعليل ذلك بكون المسلمين قد انحرفوا عن تعاليم دينهم وسنة نبيهم فعاقبهم الله على ذلك بأن سلط عليهم الكفار.
يعزو الشاطبي غربة الاسلام الجديدة الى ظهور البدع والفتن في الاسلام، وأنحراف المسلمين عن السنة النبوية، حتى أصبح أهل الحق منهم الى جانب أهل الباطل قلة، وأصبح المتمسكون بالسنة أفرادآ غرباء بين جمهور المخالفين لهم.
يصف بوتول ابن خلدون بأنه “فيلسوف دور انحطاط”، ويقول إن نظريته توحي
بالكآبة والتكمش إذ هي نتيجة خبرة في تاريخ انحطاط عاش ابن خلدون في وسطه.
يبدو ان ابن خلدون قد تأثر بشكل بالغ بوضع الغربة الذي حلّ بالاسلام في عصره، على منوال ما تأثر به زملاؤه الفقهاء، فهو مثلا يقارن في مقدمته بين أحوال المسلمين في الصدر الاول وأحوالهم في زمانه، فيقول إنهم كانوا في الصدر الاول لايترددون عن إفساد دنياهم في سبيل إصلاح دينهم، بينما أصبحوا في زمانهم الاخير يجرون على العكس.
لكن ابن خلدون كان يخالف جمهور الفقهاء الذي كانوا بوجه عام يعتقدون بإمكن إنقاذ الاسلام من غربته عن طريق الرجوع الى السنة النبوية الاولى، ولهذا كان الفقهاء يوالون الوعظ والصراخ في تحريض المسلمين على الرجوع الى السنة.
أما ابن خلدون فكان رأيه أن غربة الاسلام أمر محتوم لامناص منه و لا جدوى من
الوعظ والصراخ فيه، وما على المسلم الا أن يرضخ للواقع كما هو وينجرف معه.
يصح وصف ابن خلدون بأنه “متشائم واقعي” وهو بذلك يختلف عن المتشائميين المثاليين الذين يعزون فساد الوضع الى سوء أخلاق الناس، إن ابن خلدون لايرى للناس يدآ في إفساد وضعهم، فهم في نظره آلات صماء يتحركون حسب قوانين المجتمع الذي يعيشون فيه.
ولو قارنا بين ابن خلدون وابن تيمية الذي عاش قبله بزمن قصير لرأينا بينهما تفاوتآ واضحآ، لقد قضى ابن تيمية أكثر أيامه في كفاح ووعظ، إذ كان يعتقد جازمآ بأن سبب فساد المسلمين هو شيوع البدع بينهم، وكان يطلب منهم ترك تلك البدع والرجوع الى فطرة الاسلام الاولى، وقد قاومه أصحاب البدع من جراء ذلك واضطهدوه اضطهادآ كثيرآ حتى مات أخيرآ وهو مسجون.
يعتقد ابن خلدون ان من العبث على الفرد أن يناضل في سبيل إصلاح أجتماعي او سياسي على خلاف ما تقتضيه طبيعة المجتمع. ويظهر رأي ابن خلدون هذا بجلاء في أحد فصول المقدمة عنوانه: “إن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع”.
والهرم من الامراض المزمنة التي لايمكن دواؤها ولا أرتفاعها لما أنه طبيعي.
يبدو ابن خلدون في هذا وكأنه ينتقد ابن تيمية وأمثاله من المفكرين المثاليين الذين يحاولون إصلاح الدولة او المجتمع عن طريق إصلاح العادات.
أن العادات في رأي ابن خلدون كالظواهر الطبيعية، والناس يخضعون لامرها دون أن يستطيعوا إخضاعهها لامرهم، أما الذي يحاول إصلاح عاداته دون بقية الناس فهو قد يتعرض لسخرية الناس، وربما أدى به الامر الى عكس ما يريد.
ومن هنا جاء ابن خلدون برأيه القائل: إن الدعوة الدينية من غير عصبية لاتتم.
وذلك من خبرته الواقعية في مجتمعه، حيث وجد ذلك المجتمع قائمآ على أساس العصبية، والفرد الذي لا عصبية له تؤيده في محاولته الأصلاحية يجب عليهأن يسير مع الناس أينما ساروا وينجرف مع تيارهم.
يبدو ابن خلدون في بعض عباراته كأنه يعتقد بأن الله خلق المجتمع وأجراه على سنن مرسومة على منوال ما أجرى الطبيعة، ولكنه قادر أن يغّيره تغييرآ جذريآ إذا أراد، ولهذا أرسل الانبياء وأيدهم بنصره السماوي.
معنى هذا أن السنن الاجتماعية لا تتغير الا على أيدي الأنبياء الذين يرسلهم الله، أما الفرد العادي فليس من شأنه ولا في مقدوره أن يغّير شيئآ منها، إنه عبد الله خاضع لمشيئته ولا بد من أن يصبر على قضاء الله وقدره.
يقول ابن خلدون في نهاية الفصل: فاعتبر ذلك ولا تغفل سر الله تعالى وحكمته في اطراد وجوده على ما قدّر فيه. ولكل أجل كتاب.
المصدر: كتاب منطق ابن خلدون – د. علي الوردي