إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123). النحل
ملَّ: لھا معنیان أحدھما تقلیب الشيء والآخر غرض من الشيء ومنھا یتململ على الفراش أي یتقلب.
الحنف: المیل
و یتحنف: أي یتحرى أقوم الطریق
فما ملة إبراھیم الحنیفیة؟
إن الملة ھي تقلیبُ الشيء بحثًا عن غرض فیه، والتحنف ھو التمایل لتحري الطریق القویم.
إذن، فالملة الحنیفیة ھي: تقلیبُ الأشیاء بحثًا عن غرض محدد ھو الحقیقة، ولأن الحقیقة نفسَھا نسبیة في الزمان والمكان، فأنك دومًا تحنف عنھا عندما تشبع حاجیاتك النسبیة منھا إلى حقیقة أخرى أیضًا تكون نسبیة… وھكذا.
أسلوب “الملة الحنیفیة” ھو ما یطلق علیه أھل الفلسفة حالیا “الجدلیة” وھو الأسلوب الذي قد استغله إبراھیم عليه السلام للتفریج ما بین الحقیقة والوھم وما بین الخطأ والصواب.
فكیف تنطبق ھذه المعاني على ما عرفنا حتى الآن من سیرة إبراھیم؟
بحث إبراھیم عن خالق ھذا الكون .. وجد الأصنام أمامه، ململ حقیقة الإله والأصنام في عقله فلم یجدھا تتفق مع صفات الإله الحق الذي خلق كلَّ الكون، فحنف عنھا وقال لأبیه وقومه:
إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. الانعام (74)
ثم بدأ رحلة بحث طویلة .. رأى الكوكب عالیاً في السماء .. حنف إلیه وافترض أنَّه ربُّه .. أفل الكوكب .. ململ الفكرة في عقله .. رفض الكوكب وقال لااحب الافلين.
فرأى القمر بازغاً، فحنف إلیه.. أفل القمر ..ململ الفكرة في عقله باحثاً عن الحقیقة .. قال:
لَئِنْ لَمْ یَھْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّینَ. الانعام (75-79)
رأى الشمس بارزة وكانت أكبر .. حنف اليها .. أفلت .. تململ .. ولان قلبه سليم لم يحنف الى الشرك .. انما قال لقومه:
يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. الانعام (78)
الى ھنا تدخل الله فھداه إلیه وأرشده إلى حقیقة الربوبیة لیكون شاھداً على إجابة السؤال الأول الذي یطرأ على بال اي انسان:
مَن خالقُ ھذا الكون؟!
جادله الملك في الربوبیة .. وكان یعلم حقیقة أن لله یحیي الموتى .. وعندما عالج له الملك أمامه جسداً كاملاً وأجلسه أمامه .. حنف عن حقیقة أن لله یحیي الموتى وھم بكامل ھیئتھم .. ململ الفكرة في عقله .. ولجأ إلى لله مباشرة .. وأراه بالتجربة عملیة إحیاء الموتى وھم قطع منتشرة على قمم الجبال .. لیكون أول إنسان یرى عملیآ إعادة الحیاة في جسد ممزق ویشھد بنفسه على السؤال الثاني الذي یؤرق بال الإنسانیة وھو إمكانیة الحیاة بعد الموت ویكون علیه من الشاھدین.
وبذلك یكون إبراھیم عليه السلام بملته الحنیفیة قد وصل إلى نصف الحقیقة في اثنین من ثلاثة اسئلة التي ظلت الإنسانیة على مر العصور تبحث عن إجابة لھا، وھي:
من خالق ھذا الكون؟
ھل ھناك حیاة بعد الموت؟
كیف وأین بدأت حیاة الإنسان؟
ففي قضیة البحث عن الخالق رفض إبراھیم مبدأ عدم وجود خالق ثم رفض الشرك ورفض الأصنام واختبر الكوكب والقمر والشمس فلما سقطت كلھا في نظره وجه وجھه للذي فطر السماوات والأرض من غیر شرك.
وھنا فقط أكمل لله له صلته به وكلَّفه بالرسالة.
أما في قضیة إحیاء الموتى فھو لم یتنطع ویحاجج الملك الذي أحیا من ظنَّ أنَّه میت أمامه وإنما حسم المناظرة بالضربة القاضیة بعیداً عن جدل لا یفید في أمر إحیاء الموتى ثم توجه مباشرة ھذه المرة إلى لله یسأله عن كیفیة احياء الموتى اذ انه الان على صلة مباشرة بالله.
وان أمر إحیاء الموتى من الغیبیات التي لا یعلمھا إلا للهُ.
أما في قضیة بدء الخلق ومكان الإنسان الأول فكان الله تعالى ھو الذي ابتلى إبراھیم بكلماتٍ .. فأتمھنَّ إبراھیم بنضج عقله وقدرته على ربط الحقائق فجعله لله للناس قاطبة إماما.
تفاصيل هذه الامامة ومقام أبراهيم والكلمات التي اتمهن وعلاقتها بقصة الانسان الاول تأتي في الفصل التاسع في باب المثابة.
إن مَن اتبع إمامة أبراهيم في أمور دینه أھتدى لما أھتدى إلیه ومن أتبع إمامته في أسلوبه المنھجي العلمي في البحث عن الحقائق كما فعل نیوتن وداروین أستفاد وأفاد الناس في دنیاھم.
من ھنا نفھم لماذا جعله الله للناس إماما ولیس للمؤمنین فحسب.
ولانه كان إمام كل الناس فقد كلفه لله بتطھیر البیت العتیق واتاه شرف دعوة الإنسانیة للعودة إلى بیت آبائھم إلى یوم القیامة.
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً. البقرة (125)
المراجعة الكاملة لاذان الانعام
المصدر: كتاب آذان الانعام
الباب الثامن: ملة أبراهيم
المؤلف: الدكتور عماد محمد با بكر حسن