لم يكن الحجاج ابن الساعة، لقد خلقته حوادث وكوّنته فتن وجعلت منه رجل ثورات ومنازعات وأختلافات ضاق الناس بها وضاقت بهم فخرج هذا الشخص الغريب الذي يسميه التاريخ الحجّاج بن يوسف الثقفي وتسميه الوقائع صورة مصغرة عن العصر الاموي الاول وما أضطرب فيه من أحقاد وأنتشر من منازعات حتى صار يصح تسميته بعصر الحجّاج لانه غلب عليه وسيرّه وفقآ لنظام جديد في الحكم لم يكن العرب يألفونه، كان جديدآ بكل معنى الكلمة.

جديدآ في جدته، حديثآ في جبروته، غريبآ في الوانه، فخرج العصر وأذا بالحجاج شخصيته الكبرى.

نشأ الحجّاج في مدينة الطائف التي أوذي فيها رسول الله محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم وعلى آله أكثر مما أوذي في مكة، ولم تدخل الاسلام الا بعد زمن طويل وحصار عنيف ودم كثير.

في تلك المدينة بكى عليه الصلاة والسلام بأمي وأبي هو وأختلى الى ربه همسآ بالدعاء الاثير الأحب الى نفوسنا:

“اللهم إاليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين يارب المستضعفين الى من تكلني الى عدو بعيد يتهجم عليّ أم الى صديق قريب ملّكته أمري؟ أعوذ بنور وجهك الذي أضاءت له السموات وأشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والاخرة أن تنزل بي غضبك او يحل عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة الا بك”.

أنها ذكرى مؤلمة لا يمكن تناسيها عند ذكر الطائف والحوار المؤثر بعد ذلك بين رسول الله عليه الصلاة والسلام وعداس النصراني.

ولد الحجّاج عام 41 للهجرة في مدينة الطائف في عهد معاوية.

كانت عائلته فقيرة ومعدمة وكان ضعيف البنية في طفولته ثم أمتهن التعليم فكان يعلم الاطفال كتابة القرآن وقراءته وحفظه وكانت عصاه شديدة وقاسية عليهم.

لم ترق له هذه الحياة طويلآ وكان يريد الخروج الى دمشق حيث الترف والعز وحيث السياسة والسيف.

قاتل في جيش المروان بن الحكم ولم يكن له أي موقف يذكر.

في سنة 70 للهجرة عينه عبد الملك بن مروان أميرآ للمؤمنين عند مغادرته الشام الى العراق لمحاربة مصعب بن الزبير عندما رأى أنحلال عسكره وأن الناس لايأتمرون بأمره وكان شرطيآ عند أحد أعوان عبد الملك المقربين.

لقد كان يكره العراقيين ولا يثق بأحد منهم لأنهم لم يتركوا له فرصة للأستمتاع بأمجاد الولاية التي غمرت المشرق من أدناه الى أقصاه، فما كاد ينتهي من ثورة حتى يعلق في ثورة وما كاد يغمس سيفه من حرب حتى يعود الى مكانه في حرب أخرى.

وقد ظهرت نقمته هذه على العراقيين وشدته على المعارضين في ثورة ابن الاشعث، فقتل أحد عشر ألفآ في يوم واحد بعد أن آمنهم لانه كان يخشى ثورتهم بعد أن قتل كبارهم ومزّق أوساطهم وأدمى قلوبهم فأراد بناء مدينة خاصة له يقيم فيها مع جند الشام.

كانت مدينة واسط أختياره بسبب وقوعها بين البصرة والكوفة وأيضآ لطيب مائها وأعتدال مناخها.

وقد أسرف الحجّاج في البذخ على بناء مدينته فصرف على القصر والمسجد والجدران الخارجية ما لا يقل عن ثلاثة وأربعين مليونآ درهم.

ويذكر أنه أمر بتقييد تسعة ملايين درهم لبناء المدينة و 43 مليونآ لمصاريف الحروب!!.

ولما أنتهى من بناءها نقل الأمارة اليها وظلت واسط مركزآ لعامل الخليفة في العراق لا يدخلها غير السوريين من جنده وبعض الاجانب من غير العرب.

وللجاحظ رأي في علة عصيان أهل العراق على الأمراء وطاعة أهل الشام:

“إن أهل العراق أهل نظر وذوو فطن ثاقبة ومع الفطنة والنظر يكون التنقيب والبحث ومع هذين يكون الطعن والقدح والترجيح بين الرجال والتمييز بين الرؤساء وإظهار عيوب الأمراء.
وأهل الشام ذوو بلاده وتقليد وجمود على رأي واحد لا يرون النظر ولا يسألون عن مغيب الأموال، وما زال العراق موصوفآ أهله بقلة الطاعة والشقاق على أولي الرئاسة”.

لقد أجمع المؤرخون العرب على أن سياسة الحجّاج جعلت العراق في أسوء حال، كان الناس إذا تلاقوا في المجالس والمساجد والاسواق تساءلوا من قُتل البارحة ومن صُلب ومن جُلد ومن قُطع.

وأنتهى به الامعان في الظلم الى أن يأمر الناس بحلق لحاهم ويعاقب المخالف بتسميره في الحائط فيموت جوعآ وألمآ وهو لا يستطيع سبيلآ الى الحراك.

كان الحجّاج نهمآ مبذرآ مسرفآ يميل الى السمنة، وكان يجد لذة في سفك الدماء وأرتكاب مختلف ألوان العسف والقمع.

كان يحبس الرجال والنساء في مكان واحد ولم يكن للحبس ما يستر الناس من الشمس في الصيف ولا من المطر في الشتاء، فمات في حبسه خمسون ألف رجل وثلاثون ألف أمرأة!!.

ولو أنه أخذ بسياسة الحلم والعفو والتقرب من الناس لأحسن الى نفسه والناس لكنه كان متجبرآ لا يرى في الحلم الا ضعفآ، فمضى في سياسة التعسف مضيآ قضى على أعماله الحسنة وأساء الى أدارته القوية وجعل الناس لا يذكرون عهده الا بشيء من الاشمئزاز والنقد.

وقيل إنه ذُكر عند عمر بن عبد العزيز ظلم الحجاج وغيره من ولاة الامصار أيام الوليد بن عبد الملك فقال:
“الحجّاج بالعراق، والوليد بالشام، وقرة بن شريك في مصر، وعثمان بالمدينة، وخالد بمكة، اللهم قد أمتلأت الدنيا ظلمآ وجورآ فأرح الناس”.

فلم يمض غير قليل حتى توفي الحجّاج وقرة في شهر واحد ثم تبعهم الوليد وعزل عثمان وخالد وأستجار الله لعمر بن عبد العزيز.

حكم العراق عشرين سنة ومات عن أربع وخمسون عامآ.

يقال أن سبب موته كان لمرض في معدته بسبب شراهته وما صارت اليه من عجر في الهظم.

ويقول بعض المؤرخون أنه أصيب بالسرطان في آخر أيامه وأنه كان يتعذب عذابآ شديدآ.

ولما فشا خبر وفاته بين الناس ظهر البشر على وجوه العراقيين وأخذوا يهنون بعضهم وسجد بعضهم شكرآ لله على أخذ الحجّاج اليه وكانوا يقسمون الايمان المغلظة بأنه ذهب الى النار وأنه حطب جهنم.

مات بمدينة واسط ودفن فيها.

ولما بلغ عمر بن عبد العزيز موته خرّ ساجدآ وكان يدعو الله أن يكون موته على فراشه ليكون عذابه أشد في الاخرة.