قد تكون الحياة صعبة وقد يكون القدر مرآ وقد يكون الموت مصيبة.
لكن أن يكون الكتاب معاناة في الوقت الذي تلجأ اليه هروبآ من كل تلك الاقدار فذلك أمر خطير ومؤلم.
لا أتكلم عن الروايات والكتب المعرفية والفلسفية، ولا أدري تحت أي مسمى من المصنفات يجوز أدراج هذه الكتب التي تتسلل الى العقل والقلب كالسم فتشل صاحبه وتقلب كيانه وقد تحطم حياته الى الابد.
كلما قرأت تزداد نهمآ وفي كثير من الاحيان نفورآ ورفضآ ولكن الفضول يغريك وتتسابق مع الاسطر والصفحات حتى ينفجر رأسك وتتمنى أن ترمي الكتاب بكل قوتك بأقرب حائط.
ضياع وفوضى وشتات وأحيانآ غضب عارم تلك هي أعراض هذه الكتب.
أمي كاملة عقل ودين للمؤلف عماد حسن
أدخلني في دوامة كدت أغرق فيها لولا أن تداركتني لطائف الله الجميلة.
قرأت من قبل آذان الانعام لنفس المؤلف والتي تدور حول خلق الانسان ومراحل تطوره وعلاقتها الوثيقة بمراسم الحج التي صورّها وكأنها ذكرى سنوية لقصة الخلق التي تتجلى بهذه الطقوس الدينية.
تمتاز كتبه بالبحث العلمي في تفسير آيات القرآن أستنادآ الى جذور الكلمات في اللغة العربية، مما جعلها مدخلآ ملائمآ بالنسبة لي ولكثير مثلي ممن يبحثون عن مخرج من الجمود والتخلف الذي وصلنا اليه تحديدآ في أمور التفسير والشريعة التي ما عادت تناسب حياتنا العصرية بسبب ثلة من الكهنة الذين نصبوا أنفسهم علماءآ للدين وهم أشد من يحتاج الدين الى أصلاحهم وحماية الناس من جهلهم وجمودهم.
لغة قديمة وأسلوب فظ ووجوه مخيفة وأصوات أنكر من صوت الحمير لاتتماشى مع تطور العلم ولاتمت بصلة الى الواقع.
مما جعل المسلمين مجرد أسماء وبعض المظاهر التي صار أغلب البشر يتحسس منها وصدور مريضة وعقول مفرغة، فالتفتوا يقاتلون بعضهم كما كانوا قبل الاسلام تمزقهم القبلية والطائفية والاحزاب السياسية والمؤامرات الخارجية والداخلية والاعلام المزيف وأي حديث عابر.
تركت الكتاب لشهرين بعد حصولي عليه ولكني أبدآ لم أنس أمره كما نسيت كثير من الكتب في مكتبتي، لكني كنت أنتظر الوقت المناسب.
وسبحان القائل “لكل أجل كتاب” ولكل شيء أجل مسمى.
قرأت الفصول الاولى عن القصص في تراثنا الشعبي ومناهجنا الدراسية وكلها تسيء الى الرسول صلى الله عليه وسلم بطريقة غير مباشرة ثم يتطرق في فصل مطول عن العقل وخواصه وماهيته وعلاقته ببقية الاعضاء والحواس عروجآ على النفس والروح في تفسير مبهم!.
ثم دخلت معه في فصول طويلة عن الميسيحية والاناجيل الاربعة لكل من لوقا، مرقس، يوحنا، ومتى لتداول أمور عقائدية شائكة جدآ ومن خلال حبكة درامية على طريقة شارلك هولمز.
وصلت الى فصل صناعة الميسيحية.
ثم رفع الله الكتاب مني بعد أن وصلت ذروة الاضطراب والحيرة بعد تلك القراءة المكثفة التي أودت برأسي وعيني وأفكاري.
كان لابد من الاعتكاف وهي طريقتي عندما تختل الموازين عندي وتعصف بي الافكار يمينآ وشمالآ فألتجأ الى الله بقوة لينور عتمتي.
نسيت الموضوع في اليوم التالي عند بداية الاسبوع وأنشغالي بالعمل.
ثم تذكرت الكتاب في منتصف النهار وقررت أخذ أستراحة قصيرة والهروب الى مكتبة فندق سانت ريجس في نفس برج المكاتب الخاصة بنا، كانت زيارتي الاولى التي قد وعدت نفسي بها مرارآ ولم أوفي بوعدي.
كانت مكتبة صغيرة ومتواضعة في الطابق الاول، أضاءة خافتة وأثاث غامق ولكنها كانت باردة وكأني دخلت مجمدة.
لم أكد أفتح الكتاب حتى سمعت شخص يسلم عليّ بحرارة وكانت صديقتي التي تعمل في أدارة الفندق، عندما أبديت أعجابي بالمكتبة عرضت عليّ أن تعرّفني بالمكتبة الرئيسية في الطابق الارضي، تفاجاءت ورحبت كثيرآ بالفكرة لاني لم أكن أعلم بوجود مكتبة أخرى.
نزلنا الى الطابق الارضي ونحن مشغولين بالحديث فعلاقتي بها تحديدآ كانت ودية وفيها شيء من الخصوصية.
عندما وصلنا الى مدخل الفندق كانت هي تؤشر الى اليمين حيث مدخل المكتبة.
لكني تسمرت عند المدخل لثواني عندما لمحت شخصآ بثوب أبيض وعمامة بيضاء فوق رأسه أكاد أعرفها لكني لم أستطع أن أمّيز أن كان هو نفسه!!.
هو أيضآ ظل محدقآ صوبي.
ألتفت الى صديقتي وأستأذتنها لاتحدث معه.
بادر هو بالكلام وسألني: هل أعرفك؟ يبدو وجهك مألوفآ، أين ألتقينا؟
كان يتكلم بهلجة أمريكية أعرفها.
سألته هل أنت حمزة يوسف؟
قال: نعم، ورجع يسألني عن أسمي
أكدت له أننا لم نتقابل وأنه لايمكن لي أن أنسى ابدآ ذلك لو أني قابلته من قبل.
قلت له بأني أعرف كل كتبه ومحاضراته وخطاباته في مؤتمرات تورونتو، فقال لي بفرح، هل حضرت مؤتمرآ؟
قلت له أني كنت أسكن هناك وحريصة على متابعته في جميع البرامج.
قلت له بلا وجل أنت معلمي وقدوتي وأقرب المؤثرين في رحلتي الى الله.
قال: أنا عندي برنامج في رمضان القادم هنا في أبوظبي ولكني لاأجد أي أعلانات ولا أحد يعرف.
عرضت عليه أن أساعده وسألته أن كان عندي أيميل للتواصل.
أخرج بطاقته وسألني عن قلم ليكتب ايميله الخاص، عندما اخرجت القلم من حقيبتي تذكرت الكتاب فسألته فورآ أن كان يعرفه .
سألني عن المؤلف وأختصاصه فأخبرته ثم سألني عن محتوى الكتاب فشرحت له على عجالة الثورة الفكرية التي يطرحها الكتاب ومن قبله كتاب آذان الانعام.
سحب الكتاب من يدي بهدوء وبدأ يقلبه ثم أجابني منكرآ بشدة جميع الطروحات التي سمعها مني.
أعطاني بطاقته ثم ذهب مودعآ وكان لايزال مستمرآ في الحديث وهو يبتعد.
قلت له: شيخ كتابي؟
أجابني بذكاء: ألم تطلبي مني أن أقرأه؟
قلت: نعم، أستطيع أن ارسل لك نسخة لاني لم انته من قراءته.
فرد ضاحكآ: لاحاجة بك لهذا الكتاب، أنسي أمره.
بقيت متسمرة في مكاني وأبتسامة كبيرة على وجهي وأنا أراه يذهب، ثم ألتفت وتذكرت بأن صديقتي لازالت واقفة كل هذا الوقت تنتظرني.
أعتذرت لها كثيرآ ولكنها كانت مندهشة مما حصل ويبدو عليها الفضول لتعرف من هذا الشخص والحديث الذي دار بيننا.
أخذتني الى المكتبة وكانت كبيرة ومشرقة لكن رفوفها فارغة ولم يكن هناك غير الاثاث الانيق.
بعد أن جلسنا أستطردت وقالت لي أن هذا الشخص ليس عادي اليس كذلك؟
شرحت لها بأختصار عنه وعن الكتاب وعن موضوع الحوار.
فأجأتني بأنها منذ مدة كانت تبحث في القرآن ولكنها تجد صعوبة في فهمه، سعدت كثيرآ ولم أتوقع ذلك نهائيآ وقلت لها على الفور أن هذا الشخص هو ضالتك، يمكنك أن تبحثي في كتبه ومحاضراته على اليوتيوب وأكدت لها بأنه مصدر موثوق ويمكنها أن تستمع له بدون خوف او شكوك عن اي شيء يخص الله والاسلام.
نظرت اليّ بود ثم قالت: هل تجدين هذا الحدث عاديآ؟
رجعت الى مكتبي وأنا أرتجف بشدة ولا أدري اهو البرد أم السعادة التي غمرتني أم المفاجأة التي أربكتني وأحاول تصديقها.
كانت تلك أجابة الله عز وجل لكل ما دار بيني وبينه في ذلك اليوم عند أعتكافي.