لو كنت استطيع ان اكتب قصيدة أرثي بها شيء عظيم ومقدس لكانت في خطبة الجمعة.
لايخفى على أحد مكانتها في الاسلام والمجتمع والانسان ولكنها همشت واضمحلت لدرجة التعطيل والملل.
لم انشأ في بيئة متدينة ولم اعرف المساجد الا في مرحلة عمرية متأخرة .. ولم تكن صدفة.
لاصدف في الحياة وانما تدابير وتقادير لطيفة ومباغته.
في تلك التقادير كانت بداية الطريق.
وجدت فيه راحة وسعادة لم اعرف سببها او منشأها ثم كانت أول خطبة استمع اليها وكأني خرجت من كوكب الارض ودخلت عالم جديد مليء بالمشاعر والمعلومات والطقوس والانتماء.
بدا كل شيء متناسقآ، الحضور في هيئتهم المحتشمة والمكان بهدوئة وجماله والصوت الرخيم الذي يخرج من المكبرات فيخترق القلوب قبل الاذان والعيون تملآها الاماني والرغبة والرهبة والرجاء والحب والابتهال.
كانت الكلمات تنساب الى قلبي فتذيب طبقات الصدأ التي غلفتها السنين والاعوام.
كما تذيب شمس الصيف أكوام الثلوج فتحيلها ماءآ عذبآ جاريآ يسقي الارض فيحييها ويغير حالها الى طبيعة بديعة الجمال والتكوين.
تعلقت بها واصبحت اتردد لاسمعها مرة ثانية وفي كل مرة كنت أغتسل بكلمات كانت تغير خريطة حياتي وتمهد لطريق جديد لم اعرف طبيعته او ماهيته ولكني اردت ان اخوضه ووجدت رغبة واستعدادآ كاملا لاقوم بتلك المغامرة وشيء في داخلي يدفعني بقوة نحو ذلك الطريق.
ثم كانت تلك الخطبة التي لم اسمع بأسم خطيبها بحياتي ولكني عرفت ان له صيتآ معروفآ ومكانة رفيعة في البلاد واسمه د. احمد الكبيسي.
لم أستطع ان استوعب كل ماقاله ذلك اليوم فقد كان اكبر من طاقتي بكثير.
ولكني صرت اتتبعه في كل مسجد لاستمع الى خطبته التي بدت كأنها شخصية للغاية.
كانت تلك البيئة التي أحتجتها بشدة لكي تنمو البذرة التي زرعها أحدهم في قلبي قبل أن تموت وتذهب مع الريح فقد كان عودي غضآ طريآ ولولا تلك الخطب والكلمات والجو الذي عشته في جمع لم تتعد العشر ماأستطعت أن أستمر في هذا الطريق.
ثم تأتي الحياة على طبيعتها بأحداث وأقدار اخرى تقلب الكيان رأسآ على عقب فهي تكره نمط الوتيرة الواحدة في حياة البشر ولذلك تراها تتغير وتتغير وتتغير لدرجة لانستطيع اللحاق بتغييراتها وتقلباتها.
وبالرغم من أحداث جسيمة وتغييرات جذرية لم أنس المسجد وخطبة الجمعة.
حنيني لها جعلني أقلب تربة حياتي وأعود الى نقطة البداية في حلة جديدة وعقل منفتح بحثآ عن الحقيقة .. كانت نفسي تتوق الى شمس ساطعة وماء نقي طاهر لكي تصبح جاهزة لما اردت ان ازرعه.
أجتمعت جميع الظروف المناسبة التي أحالت تلك البذور الضعيفة الى جنة خالصة في أعماقي .. في بلاد الغرب حيث الوحدة والتأمل والتفكير والاستقلال والهدوء والنظام والاخلاق والتناسق الداخلي والخارجي كانت كلها تصادق وتدعم عالمي الجديد الذي دخلته.
ثم الصحبة الطيبة والعقول المنيرة والنفوس الراقية التي أحاطتني برعاية كونية لكي أستمر في ذلك الطريق بثقة وثبات وحماس لاينضب.
ثم العلم والدراسة والعمل التي كانت توازي كل كلمة وتتطابق معها بشكل مبهر ورائع.
والمساجد .. هناك في تلك البلاد الباردة كانت تمتلآ دفئآ وحرارة وراحة .. لم تكن مثل التي رأيتها في بغداد فهي بسيطة للغاية ببنائها وفرشها وطريقة تصميمها تعكس بساطة الغرب وقدرته الفائفة على التركيز في المحتوى والمضمون بشكل بسيط من دون اي تكليف او مبالغة في الشكل الخارجي.
لكني لم اجد الناس الذين أعتدت رؤيتهم وأحسست بقرابتهم في كل رجل وامرأة وطفل عندما كنت في بغداد، الناس هنا مختلفين من كل الاجناس والاعراق والملل .. هيئتهم، ملابسهم، تحيتهم، عاداتهم، لغتهم، الوانهم، وحتى طريقة صلاتهم ولكن لا اله الا الله تجمعهم وتوحدهم بشكل عجيب ومثير للدهشة والفرح.
لم يقتصر المسجد على هؤلاء فقد كنت دومآ أرى أناس بهيئة مختلفة كليآ يجلسون على الكراسي وليس على الارض كما نفعل في الصفوف الاخيرة من المسجد وكانوا هؤلاء من غير المسلمين ممن دفعهم الفضول وفضل الله لكي يستمعوا ويتعلموا ويشهدوا الحقيقة التي كانوا يبحثون عنها.
ولاول مرة في حياتي شهدت امورآ كادت تحسر النفس في صدري وتوقف نبضات قلبي عندما رأيت تابوتآ في المسجد في منظر مهيب يقتلع الافئدة ويجعلها تستهزأ من الحياة والغربة والهموم وكل شيء في تلك الحظة ويشعر الجميع بأنه أهل لذلك المتوفي فيتم الصلاة عليه بخشوع وحزن عميق.
أما الفارقة الاخرى فكانت مفرحة للغاية عندما تشهد ولادة انسان قرر أن يدخل الاسلام تاركآ ماضيه وأهله وأسمه الى غير رجعة داخلا الى الاسلام بدموع الخشية والفرح وتكبير الحاضرين.
كان المسجد مكانآ حيويآ وممتعآ وليس واجبآ، اروع مافيها الخطب الارتجالية التي كان يلقيها أشخاص شتى وزوار من الشرق والغرب وشباب ومسنين بلغة سهلة وصدق شفاف ومواضيع مؤثرة وكلمات تبقى تدور في الرأس لايام وأيام واحيانآ شهور واحيانآ الى الابد.
هكذا وجدت نفسي في ذلك المكان وهكذا كانت روحي تحلق كلما دخلت ذلك المكان وهكذا اصبحت الجنة التي في صدري كبيرة واسوارها متينة ولم أعد أخاف ان أختلط بالناس وأخرج الى الحياة بشخصيتي الجديدة وقالبي الذي نحته بدقة وعناية وتصميم وأرادة لافضل لي فيها أطلاقآ أنما كنت أستلهم طاقتي وقوتي وأصراري من حب عظيم ومنهل سماوي ورعاية ربانية لاتوصف.
في تلك المساجد كانت تقوم الكثير من النشاطات والفعاليات والمناسبات والحلقات والدروس والاعمال التي كانت تكمل التناسق في تلك البلاد وان لم تكن على دين الاسلام ولكنها بالتأكيد أنتهجت نظامه وأخلاقه وسموه في كل النواحي.
حتى لتظن ان كل من تراه وتتكلم معه وتسلم عليه مسلمآ وأخآ في الاسلام لدرجة ذابت فيها الفروق وحدود البلدان والالوان وجردت الخلق من كل شيء ولم يبق الا الانسان والانسانية التي شعرت أنها تجمعني بكل الناس على الاطلاق بلا حدود ولا تمييز.
تلك كانت القمة التي أستطعت أن أصل اليها عندما بلغت المعنى الحقيقي للاسلام ورأيت الناس كلهم وكأني أعرفهم جميعآ .. شعرت بالمكان الفيزيائي لتلك القمة وكأني انظر الى الارض من مكان شاهق الارتفاع وقلبي لايكاد يسع الحب الذي أكنه لجميع هؤلاء الناس بدون فارق ولا استثناء.
وصلت الى تلك القمة بفضل الله اولا واخرآ وقبل كل شيء وبعد كل شيء.
ثم بفضل تلك الخطبة التي سمعتها لاول مرة فضولا وشوقآ لكلمات ومعاني لم أعهدها في حياتي وكانت سببآ في ولادة جديدة وقمة في منتهى الروعة والجمال.
كنت أتوق الى مساجدنا ولغتنا العربية بعد سنين طوال لم أكن أسمع فيها الخطبة الا بالانكليزية.
ثم كان اللقاء …
عندما أنتقلت الى الشرق وصرت قريبة أسمع الاذان في كل وقت والمساجد تحوطني من كل جهة ودرب.
دخلتها برهبة وجلل وأنا أتذكر ذلك المكان في بغداد.
ولكني ابدآ لم أجد ماكنت أبحث عنه.
صبرت ولم ايأس وترددت على أماكن أخرى أبحث عن ذلك المكان وتلك الكلمات والناس والاجواء لكي أرجع أحلق بعيدآ في السماء.
ولكن لم يحصل ..
البناء ولا أجمل والحدائق خلابة ولكن الخطبة ….
لم تصلني ولم أستطع الوصول اليها.
الافتعال والتصنع والتكلفة في نبرة الصوت والالقاء وحتى الدعاء.
لاخشوع .. ولا رهبة .. ولا سكينة
صلاة باردة وقلب ميت وعين تملؤها دموع الحزن والخجل.
تستغيث روحي بكلمة واحدة .. بقطرة واحدة .. بأي شي يرد اليها بهجتها وسكونها.
ولكن لاشيء سوى صدى الفراغ.
أمتنعت ولم أعد أذهب.
أنظر بشفقة وخوف الى أولادي والشباب والاطفال وكل المتعطشين والتائهين والمتعبين.
ولااستطيع ان أنقل لاحد تلك المشاعر والتجربة التي عشتها لانها لاتترجم ولاتكتب ولاتقال.
ولكني اؤمن بشدة بأنه في مكان ما وأن لم يبق الا مسجدآ واحدآ على الارض ستظل الخطبة تخاطب الروح والخطيب قوي مفكر صادق لايخاف في الله لومة لائم والمسجد بيت يستحق ان يقال انه بيت الله.
لازالت موجودة .. ولازال المؤمنون على قيد الحياة .. ولازالت الارض باقية لاجلهم وفيهم .. ولازالت أصواتهم عالية تملأ الكون نورآ وهدى .. ولازال الله قريب أقرب من دمائنا التي تجري في عروقنا وأقرب من نبضات القلب وأقرب من الروح.
فأن دخلت الى أحدى تلك المساجد ووجدت مالم أستطع ان أقوله فأعلم بأنها ليست صدفة وقد تكون بداية الطريق وأنها قد تغير حياتك الى الابد.