شعرت بالكتب تناديني من الشارقة.
في معترك الحياة وزخم المشاغل اليومية لم يكن من السهل تلبية النداء.
ولكني فعلت ..
بلا حساب تركت كل شيء وذهبت الى هناك بتلقائية وحماس في صباح اليوم التالي.
ليست زيارتي الاولى لتلك المدينة ولكن كل شيء بدا بهيجآ ومفرحآ وأنا في الطريق الى معرض الشارقة.
رائحة الكتب تملآ المكان.
الناس بدوا كهيئة الكتب، أنا ايضآ صرت كتابآ بلا عنوان.
عشقي للكتاب ونهمي للقراءة يعود الى أولى سنين حياتي عندما أحببت قراءتي الخلدونية في الصف الاول أبتدائي حيث كنت أجلس مع أمي لتتعلم هي العربية معي.
نشأت في بيت يقدس الكتب ويحترم العلم ويجعله في طليعة الاولويات .. كان أبي عالمآ وكان عمله في مؤسسة البحث العلمي ثم الجامعة سببآ لقضاء معظم حياته في الكتب والابحاث العلمية، كانت له محاولات شعرية وأدبية ايضآ.
لازالت أمي تقضي جلّ وقتها مع الكتاب حتى تباشير الفجر فهي منافستي الاولى وملهمتي، تقرأ في كل المجالات وتفاجأني بثقافتها والمخزون الهائل من المعلومات التي تملكها في السياسة والتاريخ والاقتصاد والاجتماع والادب العالمي.
أنها بحق موسوعة ومكتبتها تنتقل معها في كل بلد ومكان.
في البدء كان الكتاب .. كان لعنوانه اثرآ قد يفتنني عن محتواه حتى تعلمت الدرس بعد عدة خيبات وعرفت أن الكتاب ليس عنوان وغلاف!
صرت لاحقآ كالاعمى الذي يشعر بكل التفاصيل بدون بصر.
هكذا توطدت علاقتي مع الكتاب فأصبحنا نثق ببعضنا هي لن تخونني او تضرني , وأنا لن أتخلى عنها.
ثم بدأت الاسماء تلفت نظري وصارت تقترن باسم الكتاب، فدخلت عالم الكتّاب والمؤلفين ببطء وحذر أحاول ما أمكنني الحياد وعدم التحيز لكتاب بسبب مؤلف، حرصت أن تكون دائرة قرائاتي واسعة لتشمل حتى الافكار التي لاتناسبني ولكنها تثري رصيدي وتزيد يقيني بما اؤمن به.
هكذا صار بعض المؤلفين ينحتون في شخصيتي من خلال كلماتهم وقوة افكارهم.
تأثرت كثيرآ باطروحات الدكتور علي الوردي مع شدة تحفظاتي على خلفيته ومعتقداته الشخصية.
وقبله كان بعض الفلاسفة واالمفكرين أمثال أبن رشد وحامد الغزالي وأبن خلدون.
ومن بين فولتير ونيتشه وتولستوي وغوته وشكسبير كان لجان جاك روسو الأثر الأقرب الى نفسي.
مؤخرآ تأثرت وباعجاب شديد بفكر علي عزت بيجوفيتش الرئيس السابق لدولة البوسنا ولاأخفي أعجابي بفلسفة أميل سيوران المتفردة بالاضافة الى عبد الوهاب المسيري وغازي القصيبي وأمين معلوف وغيرهم.
ولا أنسى ابدآ مدرسة الشيخ محمد الغزالي، قرأت كل كتبه وتمنيت أن أحفظها عن ظهر غيب، آمنت بفكره الواضح القوي الذي لايقبل التأويل ولا الاعوجاج ومنه تعلمت الاعتدال والتسامح والحق في قول الكلمة.
أدركت بعدها أن لكل مؤلف دارآ ثقافية تعني بكتبه وأصداراته.
ولكي أصل الى ما أبغي من الكتب كان علي أن أتعرف على الدار التي تنشرها.
هكذا بدأت خبرتي تتعمق في معرفة أغلب دور النشر وتقييمها وتصنيفها تبعآ للكتب التي تصدرها، لازالت لبنان وسوريا تتصدر أغلب الدور المفضلة لدي ثم يأتي بعدها مصر والعراق والمغرب.
في تلك الزيارة جردت أسماء الكتب التي كنت أبحث عنها ثم حصرت دور النشر التي أود زيارتها في المعرض.
وعندما حصلت على خريطة المعرض كنت كمن يتجول في غرف البيت بشكل آني وممتع.
أسعدني أن ألاقي ترحيبآ دافئآ من بعض أصحاب هذه الدور وقد أستطاعوا تمييزي وبأسمي من خلال زياراتي السابقة في المعارض التي حضرتها في أبوظبي، وأثناء النقاش طلبت من بعضهم نشر بعض المؤلفات المفقودة وترجمة بعض الاعمال النادرة.
في ساعات الصباح الاولى كان هناك العديد من الرحلات المدرسية مع أني متأكدة أن أغلبية هؤلاء الطلاب لم تسنح لهم الفرصة في المدرسة بناء علاقة قوية مع الكتاب والوقوع في حبه والتواصل معه كشيء ثابت ومألوف، كما تفعل أنظمة التعليم في الدول الغربية حيث يتعلق الطفل بالكتاب والقراءة قبل التعرف على العلوم ومنهاج الدراسة لدرجة يعاقب الطفل بالحرمان من الكتاب عند تصحيح أي سلوك معرفي وأخلاقي!!.
أصبح المعرض هادئآ بعد منتصف النهار وكأنه ملك لي لوحدي، أتجول بين القاعات والرفوف بحرية وأريحية.
يحزنني كثيرآ أن لاتجد هذه الكتب جمهورآ يليق حقآ بمقامها ومكانتها.
يحزنني أن نكون أميين ومعنا أعلى شهادات الدكتوراه والماجستيرفي مختلف الميادين العلمية والادبية!.
يحزنني أن تكون الامة فقيرة كمكتبة مهجورة، تمتلك مئات الكتب والمصادر النفيسة ولكن لاتمتلك قارئآ يزيل الغبار عن تلك الكتب، يضمها بحنان ويستمتع بصفحاتها وعبقها.
لاأتكلم عن أية أمة ..
أنها أمة القراءة .. أمة الشعر والادب .. أمة الكتاب.
أن رجعنا الى الكتاب رجعت الأمة وعلّت وتقدمت كما كانت وكما يجب أن تكون.
رجعت أنا الى البيت بصحبة العديد من الكتب لتنظم الى الطابور الذي ينتظرني في مكتبتي والتي صارت تضيق بكثرة كتبي.