سقراط يؤكد أنه لايعرف الا شيئآ واحدآ: “أنه لايعرف”
هذا الاعتراف نادر حتى عند الفلاسفة.
لم يكتب سطرآ واحدآ ومع ذلك فأنه واحد من أكثر الذين أثروا في الفكر الاوربي وقد ساهم في ذلك موته التراجيدي.
ولد في أثينا وكان يقضي معظم وقته مع الناس الذين يلتقيهم في الشارع او في ساحة السوق.
يعتبر الاكثر أشكالية في تاريخ الفلسفة بسبب غموضه وسريته.
كل ما نٌقل عنه كان عن طريق الحوارات الفلسفية التي كتبها تمليذه أفلاطون الذي أصبح بدوره فيلسوفآ كبيرآ.
ومن الصعب التمييز بين دروس سقراط وكلام أفلاطون بالضبط مثلما نقل متي ولوقا أقوال السيد المسيح عليه السلام.
لم يكن يحاول تعليم الناس بل على العكس كان يعطي أنطباعآ بالرغبه في التعلم من محادثيه عن طريق الحوار.
وبذلك يكمن سر فعالية مدرسته.
يبدأ بطرح الاسئلة متظاهرآ بعدم معرفة شيء ولكن يرتب الحوار بشكل يستدرج فيه محاوره الى أكتشاف مثالب تفكيره حتى يجد نفسه محصورآ للتمييز بين الخطأ والصواب.
كان يقارن الفلسفة بفن التوليد، حيث كانت أمه قابله وكان يرى بأنها ليست هي التي تضع المولود أنما هي تساعد المولود ليخرج حيآ الى الحياة.
وهكذا تتمثل مهمة سقراط في توليد العقول أفكارآ صحيحة.
يقول أن المعرفة الحقيقة لاتأتي الا من الداخل دون أي تدخل معرفي من الخارج.
ولادة طفل أنما هو شيء طبيعي وكذلك الحقيقة يمكن الوصول اليها أذا ما قبل الناس بأستعمال عقولهم.
عندما يبدأ الانسان بالتفكير فأن الاجوبة تكمن في داخله.
لذلك كان يتظاهر سقراط بعدم المعرفة لكي يجبر الناس على التفكير.
كان يجد متعة في لعب دور الجاهل او الاكثر غباءآ ليكشف مواطن الضعف في تفكير الاثينيين وأيقاعهم في فخ السخرية.
لذلك كان كثير من الناس يجدونه مزعجآ ومنفرآ.
كان يقول: “أن أثينا تشبه حصانآ كسولا وأنا أشبه ذبابة تحاول أيقاظها وأبقاءها حية”.
الا أن هدف سقراط لم يكن أزعاجهم بل أنه كان مدفوعآ بشيء لايترك له الخيار، صوتآ داخليآ في البحث عن الحقيقة.
كان خبيرآ في فن الحوار يتحدث بثقة عالية تجعل الاخر أما أن يقع تحت تأثيره أو يهرب مستفزآ.
رسالته كانت تحدي النظام القائم .. أنتقاد الظلم وغياب العدالة وأساءة أستعمال السلطة الى الدرجة التي كلفته حياته.
عاصر سقراط السفسطائيون ولكن لم يكن منهم فهناك أختلاف بين السفسطائي والفيلسوف.
أي رجل مثقف وعالم كان يعتبر سفسطائيآ ولكنه يتقاضى مالا مقابل تعليمه مثل الاساتذه والمعلمين أما فيلو – زوف (Philo – sophe) الفيلسوف فتعني الذي يبحث عن بلوغ الحقيقة.
الفيلسوف شيء آخر فهو يعي دائمآ أنه يعرف القليل القليل ولايتبجح بالمعرفة لامور لايملك أدنى فكرة عنها في الحقيقة مثل السفسطائي.
سقراط كان واحدآ من أولئك الفلاسفة يعي أنه لايعرف شيئآ عن الحياة والعالم والاكثر أنه يتعذب بسبب هذا الجهل.
الفيلسوف أذن هو أنسان يعترف بأنه يفهم القليل ويعاني من ذلك.
تواجه البشرية عدد من الاسئلة التي لاتجد أي جواب كاف.
فنحن أمام خيارين:
أما أن نخدع أنفسنا كسائر الناس بالتظاهر بالمعرفة او أن ننغلق على القضايا الكبري ونتخلى نهائيآ عن الامل في التقدم.
هكذا ينقسم البشر عادة الى قسمين:
قسم يتظاهر بمعرفة كل شيء وقسم يقف غير مبالي بأي معرفة.
أشبه بأقتسام أوراق اللعب بين لاعبين، هناك أوراق حمراء وأخرى سوداء لكن من وقت لاخر يبرز الجوكر .. ورقة لاحمراء ولاسوداء.
كان سقراط واحدآ من هولاء الجواكر في أثينا.
هكذا أصبح شخصآ لايتوقف عن الاهتمام، شخص يبحث دون الكل للوصول الى الحقيقة.
لقد كان سقراط يدعي بأنه يسمع صوتآ الهيآ بداخله وأن هذا “الضمير” يقول له ماهو الصواب.
الذي يعرف الخير يفعل الخير أيضآ، هذا ماكان يردده معتبرآ أن الرؤية الصحيحة للاشياء تؤدي الى الافعال الصحيحة.
من المتسحيل أن يكون الانسان سعيدآ أذا تصرف على عكس قناعته لذلك فأن الذي يعرف الصواب يفعل الصواب.
لذلك كان يحرص على أن يحدد نهائيآ وبوضوح كل ماهو صحيح وكل ماهو خاطيء مؤمنآ بأن القدرة على التمييز بين الخير والشر تكمن في عقل الانسان وليس في المجتمع.
كان لغزآ غامضآ .. ولم يترك أثرآ مكتوبآ لرسالته.
في عام 399 ق.م أُتهم بأدخال آلهة جديدة وأفساد الناشئة.
لم يطلب الرحمة مع أنه كان بأمكانه أن ينجو لو قبل مغادرة أثينا، كان يضع ضميره والحقيقة في موقع أهم وأعلى من حياته لاجل المصلحة العامة.
حُكم عليه بالاعدام عن عمر يناهز السبعين، وطريقة التنفيذ كانت الاسهل في لائحة لاتخلو بنودها من العنف: تجرع كمية من السم.
في ذلك اليوم تجمهر تلامذته في السجن ووصلت زوجته وهي تجهش في البكاء وتمزق ثيابها، تأثر بمنظرها وأمرها بالرحيل والتفت الى تلامذته يناقشهم في مواضيع مختلفة عن الفن والموت والروح.
عندما اقترب الوقت المخصص لتجرع السم ، دخل سقراط غرفة مجاورة ليستحم وهو يقول:
اريد ان اوفر على النساء تنظيف جثة ميت.
طال الاستحمام والجلاد ينتظر على الباب، ولما خرج اقترب منه الجلاد وفي يده كأس السم، قدمه اليه وقال له:
– سقراط اعرف انك لن تشتمني كما يفعل الاخرون، أنت عاقل وتستطيع ان تتحمل قدرك.
– مرحى لك! ماذا علي ان افعل ؟
– لا شئ سوى خطوات قليلة بعد التجرع، وعندما تشعر بثقل في ساقيك، عليك ان تستلقي والباقي يتولاه السم نفسه.
تناول سقراط الكأس وتجرعه دفعة واحدة بكل هدوء، لم يتمالك تلامذته مشاعرهم فانفجروا يجهشون بالبكاء مثيرين غضب المعلم.
– ماذا تفعلون ؟ لقد أمرت زوجتي بالرحيل حتى لا أرى ما يشبه مظاهر الضعف هذه أريد ان أموت بصمت الخشوع .. فتمالكوا مشاعركم.
وصمت الجميع فوراً . بعدها استلقى سقراط كما اشار جلاده . وجاء الجلاد يقيد رجليه ويقول له:
– هل تشعر بشيء؟
– كلا
وطفق الجلاد يشرح للحاضرين ان الموت يصل الى القلب بعد أن تبلغ البرودة الرجلين والبطن.
وعندما شعر سقراط بهده البرودة تصل الى بطنه، اشار الى تلميذه المخلص كريتون بالاقتراب ليقول له بصوت ضعيف:
– كريتون: في ذمتنا ديك لايسكولاب، أدفع له ثمنه دون نقاش.
– حاضر يا سيدي. هل تريد شيئاً اخر ؟
لم يجب سقراط.
لقد أغمضت عيناه …
المراجع:
Jostein Gaarderكتاب عالم صوفي حول تاريخ الفلسفة –
The Trial of Socrates – Isidor F. Stone
دراسات فلسفية – مدير نشر و رئيس تحرير جريدة دعوة الحرية المغرب