الاستاذ الفاضل كاظم فنجان المحترم،
علني اجد في سعة صدرك وطيبة قلبك وانفتاح عقلك ما يستوعب كلامي وآرائي في الرد على مقالك الفرق بيننا وبينهم صورة. لقد اضطرب فكري مؤخرآ وضعفت عن أدراك بعض الحقائق، وهو امر اجد نفسي فيه عندما تتراكم الضغوط بشكل كبير فتشتت رؤيتي وتربك أفكاري.
احدى تلك الامور التي امتلأ بها رأسي ولم اعد اطيقها هي الاخبار. انها تفرض علينا باليوم اكثر من عدد اوقات الصلاة وكأننا غافلين او مجدوبين لانعلم ولانشعر، ونحن من يصنع هذه الاخبار ونحن أيضآ مادتها الحية! فيظهروها بشكل مفبرك وكاذب ومقيت على لسان دمية آدمية ملونه كالعرائس المشوهة، تبتسم كالبلهاء وهي تقرأ خبر انفجار ادى الى عشرين قتيل .. ومظاهرات عنيفة في شوارع مدينة .. وحجز باخرة امتلأ سطحها بالاسلحة والعتاد الثقيل في طريقها الى بلاد الغربان .. ثم تختم نشرتها بأخبار رياضية لوجوه كالحة وملاعب لاتصلح الا منتزهآ للكلاب السائبة، وقد اصبح عند الناس بكل فئاتها حصانة ومناعة ضد هذه الاخبار واولهم المذيعة التافهة التي ترسم على وجهها ابتسامة عريضة وكأنها تنقل اخبار بريطانيا العظمى!!
ليست المذيعات محور موضوعي لانزل عليهن جام غضبي، انما الاخبار العتيقة التي باتت قرون ونحن نتجرع سمها ومرارتها وخزيها وعفونتها في اسماعنا الصماء وعقولنا الجامدة وقلوبنا المهترئة .. أكثر من ستة قرون و12 عامآ من القرن الجديد ونحن بهذا الحال .. وليتنا بقينا على نفس الحال، لهانت وسكتنا ولكنها تمضي كالالة الضخمة الهائلة التي سلطت علينا لتسحقنا جيلا بعد جيل بلا تغيير ولا تبديل.
وكنت مؤمنة بأن العلة والخلل فينا واننا نستحق ان تخسف بنا الارض وترتاح الشعوب من طفيليات لاغرض لها من العيش الا استهلاك فضلات غيرها واثارة الفوضى والازعاج في الكون الجميل!!
ولكن دعني اتوقف لحظة هنا وارجع قليلا الى التاريخ الذي لازال يكرر نفسه مرارآ وتكرارآ منذ قرون طويلة .. وهنا احتاج الى تصحيح وتصويب ان كنت مخطئة!
عندما انتشرت رسالة الاسلام ووصلت عنان السماء واطبقت الآفاق وسقطت القسطنطينية وبلاد كسرى ودخل المسلون فاتحين بلاد العالم حتى وصلوا اوربا وفتحو اسبانيا ووصلوا الى جنوب فرنسا ثم تراجعوا الى اسبانيا واستمر حكمهم 700 سنه.
ومقارنه بسيطة وعابرة بين تلك القرون التي حكم فيها المسلمون والقرون الحالية التي “لم يحكم فيها المسلمون” الا ظاهرآ واسمآ .. لقد انتشر العلم وازدهرت الثقافة وازينت الارض بأنواع الفنون في البناء والعمارة والحدائق والبساتين والعيون .. واصبحت قبلة العلماء وطلاب العلم وكانت الخلاص الوحيد والحرج لانتشال الغرب من ظلام واوحال وتخلف وتعصب وحروب دامية بين الشعوب المنهكة وسلطاتها الدكتاتورية بوصاية وحماية كنائسهم واساقفتهم المقدسين!!
كان هدف تلك الرسالة المجيدة بأن يعم السلام والاخاء والمساواة والعدل في الدنيا كلها .. وحصل.
ثم انحرف اصحاب الرسالة عن نهجهم واصبحت الدنيا ومكاسبها همهم وضعف الايمان في قلوبهم واستحلوا السلطة والترف لانفسهم، فتمزقت امبراطوريتهم الى مملكات ودويلات عقيمة.
وابتدأ مشوار الاضمحلال والخزي باستمرار القتال بين الملوك المتناحرة وزوال الخلافة وانعزال المسلمين في اسبانيا وانفصالها عن دولة الاسلام الموحدة، ووقوف اوربا على قدميها واستمرائها للعلم الذي شغف به العرب، فكانوا الشمعة التي انارت ظلمتهم والقدر الذي كان سببآ في بداية نهضتهم.
ولايخفى على احد الدسائس والمؤامرات والمطاحن والثورات العنيفة التي مر بها الاوروبيون للحصول على حريتهم واستعادة اراضيهم وبلادهم من نظام الاقطاعيين والملوك والامراء والطبقات العليا. واعتنقت الشعوب المسحوقة مبادىء الثورة الفرنيسة التي كانت تنادي بالقومية والديمقراطية ودارت الدفة وتغيرت الايام والاحوال وكانت الثورة الصناعية .. وبرز اكبر طاغية واسفح دجال واقبح مجرم في سماء الكون كله بأسم “بريطانيا العظمى” التي حققت نجاحآ هائلا في ثورتها الصناعية وتحسين احوال بلادها، وسرعان ماانتشر هذا الوباء الصناعي في بقية بلدان اوربا فكانت فرنسا ثم المانيا في طليعة المتقدمين وتراجعت اسبانيا والبرتغال وظهرت الولايات الامريكية بسبب هجرة اعداد غفيرة من الناس هربآ من سوء الاحوال والمعيشة في انكترا وايرلندا وايطاليا وبولندا والنمسا وبعض الدول الافريقية .. وكانوا ينظرون الى الايطالين نظرة دونية بسبب قلة ثقافتهم وتحصيلهم العلمي فأشتغلوا في العمالة والبناء .. اما الافارقة وكانوا معزولين في ولايات محدودة فأنهم لم يكونوا سوى عبيد تاجرت بهم الدول في نهضتها الصناعية وارغمتهم على الرحيل، للحصول على المزيد من المكاسب في البلدان الاخرى وكانت امريكا خصبه وفيها كل مقومات النجاح الصناعي من فحم ومعادن وبترول ومياه.
ولم تتوقف هذه البلدان عند هذه النهضة التي غيرت احوال بلدانها وشعوبها .. واصبح الدين مهمشآ بعد تجربتهم المريرة في العصور الغابرة مع الكنيسة وسلطة البابا في روما والاحكام المروعة التي كانوا يقتلون بها كل من يخرج عن اراء الكنيسة ومبادئها وفلسفتها واول هؤلاء اهل العلم والفكر الذين لم يجدوا الا الموت و النفي والاضطهاد بسبب اكتشافاتهم وافكارهم التي تناهض الكنيسة ومصالحها.
ثم ما لبثت الاطماع الهمجية والوحشية تغلب على هذه الدول، ولم تطرب انكلترا لنهضة المانيا وتحالفت مع فرنسا للقضاء على وحدتها، ودام القتال بين الدول الاوربية واستنزفت الكثير من الدماء والاموال في سبيل المصلحة والسيادة والحكم، وكانت المؤامرات والخيانة وأثارة النزاعات هي سياستهم الاولى في كل الحروب، حتى استطاعت الدول القوية ان تثبت نفسها وتعلن استقلاليتها وسيطرتها، وصارت كل واحده من هذه الدول تسعى الى البلدان المستضعفة تستعمرها وتتحكم في مصير شعوبها وتنهب ثرواتها وتفشي الفساد والظلم والتفرقة والاستغلال فيها .. فذاقت الشعوب الوان المرار والتعذيب وضنك العيش في الهند والصين والدول السوفيتية ثم مالبثت ان امتدت اطماعها وجرائمها الى مصر وسوريا والعراق وفلسطين ودول الجزيرة العربية فوقعت عليها كما تقع الضباع على قطيع الخرفان.
لم تكن سياستها كما كانت سياسة الاسلام في الاندلس، فكانت الفرقة واثارة العصبية والتحيز الى المحافظين والاقليات والمتعصبين سياستها المشهورة لضرب الاحزاب مع بعضها وتشتيت الناس وتمزيقهم .. ومنعت التعليم واحتكرت الثروات وانزلت بالثوار والقوميين اشد انواع العذاب والتقتيل.
هذه كانت سياستهم واستراتيجيتهم في السيطرة والنهب منذ القرن التاسع عشر وحتى يومنا.
لم تستطع المنطقة العربية ان تلم شملها وتتنفس الصعداء بعد ان انقضوا عليها وزعزعوا كيانها وطمسوا ثقافتها ونهبوا ثرواتها وغيروا خريطتها وزرعوا اليهود في قلبها ومدوهم بالمال والقوه والحماية.
ثم بدأ نجم بريطانيا وفرنسا والمانيا واوروبا بعد ذلك بالافول.. وبزغ نجم جديد في سماء الكون البائس ليستلم راية الاستعمار بشكل حديث ومعاصر ويضمن المزيد من المكاسب والانتصارات في بلداننا.. امريكا.
فلم يلومنا الناس والعالم والمفكرين ويتهموننا بالهمجية والتفرقة والتخلف والتمزق والانحلال؟؟
الم تكن “ولازالت” هذه سياسة المستعمرين في كل مستعمراتها؟ ام اننا آمنا بحريتنا واستقلال بلادنا وديمقراطية حكامنا ورجوع ثرواتنا؟
هل هناك دليل اوضح وافصح وابشع مما حصل في العراق على سياستهم المستمرة ودسائسهم المستترة واطماعهم الجشعة وحروبهم القذرة .. ومصر وسوريا وفلسطين والسودان وليبيا وافغانستان والشيشان وكل رقعة منكوبة على هذه البسيطة تعيد نفس الاحداث القديمة والسياسة الخبيثة.
هل مُنحت لنا فرصة ولو صغيرة للعيش بسلام من غير دكاترة وقطاع واجندة مسبقة وديمقراطية مصطنعة لكي نصنع ونبني ونتعلم ونتحد!!!!!!
هل كان الاعرابي وجمال الدين الافغاني وزغلول خونه ام متقاعسين ام جاهلين؟ الم يرفض العراق تحت الانتداب الانضمام الى عصبة الامم في سبيل الاتحاد وتحقيق حلم الوحدة العربية؟ الم يكن هذا حلم مصر وسوريا والاردن وفلسطين أيضآ في الوحدة واعادة الخلافة الاسلامية والتخلص من الاستعمار التركي والبريطاني والاوربي؟
فماذا كان نصيب هذه الدول غير التقتيل والتمزيق والابادة وانتصار الدول الصناعية .. وانتصار الدول المستعمرة.
نعم انهم يملكون الجيوش العتيدة التي لم يعودوا بحاجة اليها بفضل الطائرات والصواريخ والقنابل التي تنزل على الناس العزل والابرياء فتحصدهم وقُراهم ومدنهم ولاتبقي عليها صفصف ولا ذر، وانواع الحصار واسلحة الدمار والفناء التي لازالت مسلطة على بلدان العالم الثالث على مسمع من العالم ومرأى من الجميع!!!!!!
لم يكفيهم ذلك… فأقوى اسلحتهم منذ ان تلطخت ايديهم بدماء الابرياء في سبيل المصالح العامة والكسب الغير المشروع .. هي التفرقة.
وهل خلق الله الناس امة واحدة ليتحدوا بدين واحد او ثقافة واحدة او لون واحد او لغة واحدة او قومية واحدة؟؟؟؟؟؟
هذه سنة الله في الخلق ومن اجمل آياته وابلغها لاناس يذكرون .. ولم تكن يومآ سببآ للتفرقة والشتات والتقتيل الا لمن تشوهت فطرته وسلبت انسانيته فتحول الى شيطان أنسي ومجرم كاسر لايؤمن بدين ولا يخاف عقاب.
ليس هذا تبرير لفرقتنا وما ألنا اليه، ولكنها حقيقه وكابوس مخيف يجثم على صدورنا ويكتم انفاسنا ويشتت افكارنا ويسلب عقولنا ويبدد طاقاتنا ..
ومع اننا منهكين ومذلولين ومقهورين، فأننا متعطشون بشدة الى الحرية والعيش بكرامة والارتقاء بأمتنا وثقافتنا .. نريد قائدآ يوقظ البراكين ويشعل الحماس ويحدث التغيير. هكذا حصلت الشعوب على حريتها وتنعمت بخيراتها ولاسبيل لذلك الا بتضحية عارمة ودماء غزيرة وايمان بالحق.
عندها سيحصل الاتحاد وتختفي الفرقة ويسمو الانسان بأيمانه فوق كل شيء.
ان استطاع هذا الايمان ان يوحد الهندوس والمسلمين في الهند لنيل استقلالهم، فهل سيعجز أن يوحد الشيعة والسنه والعرب والاكراد وكل المظلومين تحت راية الاستقلال لسحق الوعاظ والامراء والمتحالفين ثم القضاء على المستعمرين والطامعين ودحرهم بلا رحمة ولا رجعة.
أنا لاالوم المخلصين الذين يذمونا ويضعون الحق علينا في خطاباتهم وتصريحاتهم وكتاباتهم الا لانهم موجوعون اكثر منا، ولكن ألم يأن للهجة التقريع والتأنيب والاستهزاء واللوم ان تُبدل بكلام يرد الثقة ويرفع الحماسة ويهون البلاء ويشحذ الهمم ويثير النخوة ويقوي الاخوة ويوحد العباد كما فعل غاندي بحربه السلمية!!
اليست هذه سياسة الغرب في تربية اولادهم منذ النشأ على التشجيع والثقة بالنفس والمحبة، اما نحن فلسنا نحب اولادنا باقل منهم ولكننا نفضل اسلوب التقريع والترهيب في التربية واصلاح الامور وبناء الانسان.
ولايختلف اثنين على الطريقتين وايهما اجدى نفعآ واعمق تأثيرآ!.
الم يقل رب العباد: “وتلك الايام نداولها بين الناس”.
اي ان النصر والغلبة تكون متعاقبة ولاتدوم لاحد، كل تجري لاسباب قدرها الله لحكمة ومشيئة لانستطيع ادراكها في كل الاوقات ولكن نؤمن يقينآ بها ونصبر على أسبابها ونتطلع ان تدور الايام لنا ونسترد كرامتنا ونرفع رايتنا قبل أن يسدل التاريخ ستاره وتنتهي قصة الانسان.
قد أكون مخطئة …
وقد تكون الاندلس حقبة تاريخية ولت من دون رجعة…
وقد تكون هذه الجرائم والفوضى الانسانية البداية لنهاية هذا الكوكب…
وقد نفنى وتصبح الحرية والعدل والسلام آخر زفرة نطلقها قبل الرحيل…
ولكن تبقى الحقيقة مهما تلونت وتفحمت واندثرث ساطعة ومتوهجة مثل قطعة الالماس تحت الارض.
ولابد لها ان تنكشف عندما يحين الاوان.