كانت طفولتي مميزة للغاية ووردية أكثر من اللازم، لازالت ورديتها تطغي على كل الالوان القاتمة التي تحاول الحياة ان تعاكسني بها بين فترة واخرى وتسكبها على لوحتي الجميلة، تلك الاشعة الوردية التي جعلت من طفولتي واخواتي اشبه بالقصص الخيالية وكأننا احدى أميرات قصص المكتبة الخضراء التي كانت محور تلك الطفولة.
لاادري كم عدد تلك القصص التي كانت تملأ مكتبتنا بأعداد وعناوين كثيرة، البجعات المتوحشات، الاخوات الثلاثة، الكرة الذهبية، سندريلا، اليس في بلاد العجائب، الجميلة النائمة، الاميرة الحسناء، وعدد لايحصى من العناوين المشوقة.
كنت اشعر بسعادة لاتوصف عند زيارة مكتبة الطفل العربي في بغداد واغلبها رحلات تعليمية تنظمها المدرسة على مدار السنة.
لايوجد مثيل لتلك المكتبة، ليس لحجمها الهائل وحسب وإنما لكثرة مرافقها وتعدد برامجها، انه مكان سحري يضيع فيه كل طفل بين مئات الالوف من أحدث وأجمل الكتب والقصص والمجلدات التي تأخذه بعيدآ الى عوالم خيالية مليئة بالمغامرات والمسرات والتشويق، القاعات فسيحة مليئة بالضوء والالوان الزاهية تتخللها رفوف الكتب بشكل يشبه السلم الموسيقي، ثم هناك الحدائق الجميلة وقاعات الطعام الانيقة والمسرح الذي يعرض أجمل الافلام، والكثير من المسابقات والبرامج الثقافية المخصصة للناشئة والاطفال.
بالرغم من كل ذلك كنت أتسمر طوال اليوم في زاوية واحدة امام الرفوف التي تحمل الاعداد اللامتناهية من سلسلة قصص المكتبة الخضراء، وابقى أسبح في عالمها لعدة أيام بعد كل زيارة.
كانت تلك القصص تنسج في خيالاتي عالمآ بلوريآ رقيقآ مليئآ بالمفاجئات والافراح والنهايات السعيدة.
الا اني لسبب ما لازلت اذكر بأني لم اشعر بذلك الفرح والارتياح عندما قرأت قصة ليلى والذئب لاول مرة او ذات الرداء الاحمر كما يسمونها في الغرب.
كنت صغيرة وكانت مخيفة، كرهت الذئب ولم أفهم لم يريد أن ينتحل شخصية جدتها وهل يمكن لاي أحد أن يصطنع شخصية اخرى بعيدة عن حقيقته، والسؤال الاهم لماذا؟
من بين مئات الشخصيات التي احببتها وتعايشت معها في تلك القصص الخضراء التصقت شخصية الذئب في مخيلتي بكل شخص كنت اراه مكروهآ وغير لطيف.
كم كانت دهشتي عظيمة عندما ولت تلك الطفولة الوردية وبدأت أرى تلك الذئاب تحوم في كل مكان مكشرة بخبث عن مكرها وحيلها.
بدأت أستوعب أن ذلك الذئب يمكن ان يتجسد بصديقة تبدو بريئة او معلمة معقدة او قريب لئيم او عجوز حقير او دكتاتور ظالم واشكال لاحصر لها تختلف بأقنعتها المزيفة وما تخفيه خلفها وتجتمع بنفس الصفات القبيحة والطباع الخبيثة التي تقتات على الشر والمكر.
ويتردد السؤال الذي خطر على بالي عندما ظهر الذئب في القصة لاول مرة.
لماذا؟
وعندما كبرت بقي نفس السؤال يلح في داخلي بدون أجابة.
لماذا ينتهكون المشاعر الانسانية؟
لماذا يتهاونون بالطيبين والابرياء؟
لماذا يستمتعون بالاذى والكذب والخديعة؟
اهي هواية حيوانية؟
ام امراض نفسية سببها طفولة مشوهة وبيوت مفككة و مجتمعات مغلقة كل شيء فيها مستتر ومتخفي يعين ويشجع على الانتحال والخداع والحرام.
في تلك الحقبة الوردية كان هناك برنامج مسائي مشهور خاص بالاطفال يعرض على القناة الاولى في كل خميس الساعة الرابعة مساءآ وينتظره جميع الاطفال في كل البيوت بلهفة وشغف.
تستضيف مقدمته الجميلة المشهورة عدد من الاطفال لمناقشة الفلم الذي سيتم عرضه للتعرف على مغزى القصة ومناقشة شخصياتها واسباب احداثها والدروس التي يمكن استنباطها.
كانت تلك البرامج تعلمنا منذ الطفولة بأن الشر عارض والخير هو الاصل كما أن الظلام مؤقت والنور هو الحقيقة المؤكدة وان الصبر والحكمة هي مفاتيح السعادة وان الغابة وإن امتلئت بالذئاب والضباع والوحوش فأنها ايضآ مليئة بالشجعان والاقوياء وأهل المرؤة وفي النهاية لاترجح الا كفتهم ولو بعد حين.
عندما كبرت وبدأت أتعرف على القصص الربانية، كانت دهشتي اعظم عندما تعلمت بأن حتى الانبياء والاصفياء لم يسلموا من تلك الذئاب المسعورة، وكانت أقربها وأحبها الى قلبي قصة يوسف عليه السلام، وهل هناك أعظم من أن يصير الاخوة ذئابآ!!.
ليس أخ واحد وإنما جميع اخوته كانوا ذئابآ ارادوا به شرآ واراد الله له أمرآ آخر، وبعد أن نجاه منهم وقع في مجموعة أشرس واكثر مكرآ تمثلت بأمراة ونساء المدينة اللاتي أتت بهن وكاد أن يصبوا اليهن لولا ان رأى برهان ربه الذي حفظه ورد كيدهن عنه فبقي في السجن لكي يهيآ له مكانآ عاليآ ومقامآ رفيعآ يكون عبرة لكل الوحوش والذئاب على مر العصور.
هناك دومآ عالمآ ورديآ في كل مكان، ليس في الخيال ولا في قصص الاطفال ولا في الجنة التي نحلم بها، انه موجود هنا لايعتبه الا المطهرين اصحاب القلوب السليمة، عالمآ حقيقيآ مليئآ بالحب والخير مهما خططت العقليات الاجرامية التي عادت بنا الى بدائية الغاب وغرائز الخنازير وطبائع القردة.
يبقى هناك دومآ ليلى برئية ويوسف تقي من بين كل مئة ذئب، تكفي براءتهم واستقامة فطرتهم لطرد اي جبان تسول له نفسه بالاقتراب منهم وترده على اعقابه ذليلا مفلسآ لايملك في رصيده غير الخزي والخسران.