للكاتبة السعودية – ليلى الجهني

إنَّني أكبر. ومع ذلك فإن كتابتي هذه ليست عدا لأعوامي ولا إحصاء لها . لقد أدركت – غير متأخرة على ما يبدو – أن قيمة وقتي فيما عرفته وأعرفه وسأعرفه عني وعن العالم من حولي ، وأن انشغالي بإحصاء السنين سيحرمني فرصة أن أعرف جديدا ، وكل ما أحياه الآن هو نهم أن أعرف. إن الذي يعرف ينأي أكثر فأكثر عن صخب السطح وضجيجه ، يغور وحيدا ، وقد يفزع ، وقد يتوحش ، وقد يألم ، بل إنه سيألم ، لكنه أبدا لا ولن يؤذي، لأن الإيذاء ضعف ، ولأن الإيذاء هزيمة متأخرة ، ومن يعرف لا يحب أن يخسر ، ولا أن يهزم.

إنَّني أكبر. ما كتبته في العشرين لايشبه ما أكتبه الان. ربما ستسبق حرب ما كتابي هذا ؛ لأنني – كما أدركت منذ وقت – أكبر في ظل الحروب. عاصرت ثلاث حروب غيرت العالم من حولي ودارت كلها بالقرب مني ، على ضفاف الخليج : الأولى بين العراق وإيران ، والثانية عقب اجتياح العراق للكويت ، والثالثة عندما اجتاحت أمريكا العراق . في الأولى كنت طفلة ، أذكر أكثر ما أذكره مذيع نشرة الأخبار وهو يعلن أن التلفزيون السعودي سيكف عن نقل تفاصيل الحرب الدائرة بين الشقيقتين المسلمتين . في الثانية كنت شابة تبكي ليلة السابع عشر من يناير عام ( ١٩٩١ ) دون أن تفهم ما الذي يحدث ؟ ولم يحدث الآن ؟ في الأخيرة كنت امرأة على الأعراف ، وحيدة وأسيانة ، تظن رحمة الله قد هجت بعيدا ، ولا تدري كيف ستمضي بقية عمرها ، لكنها تود لو تمضي بأقل الخسائر.

إنَّني أكبر. وأبلغ أربعيني دون طفل ومع ذلك فإن اسمي لن يمّحى كما تظن نسوة كثر حولي، وحياتي لن تفضي الى خواء. ماأنجبته عصي على الموت، وكل ما أعرفه عن الحياة جعلني أدرك أن الخلود حلية من يعي لا من يتكاثر.

إنَّني أكبر. ماعدت أريد غير الصمت. الصمت الذي ربضت في كنفه الخليقة دهورآ قبل أن يخلق الله آدم وحواء، الصمت الذي تسبح فيه – دون قلق – كل الأرواح التي انعتقت من قيد أجسادها، فغدت خفيفة لينة غير عابئة بأن تُرى أو تُجرح أو تمرض أو تُعذب أو تحترق أو تُهان. تمضي حرة مؤقنة بأنها لم تعد قابلة لأن تُمس، ولم يعد ثم ما يجعلها عرضة للألم. تلاشى الجسد، وانطلقت هي الى صمتها القديم، الى جنة غادرتها وتعذبت طويلا قبل أن تعود اليها.

إنَّني أكبر. عالم مزر هو عالمي، عالم غير آمن، وغير مفهوم فيه لم يبدأ أمر ولم قد يستمر أو ينتهي؟ ولم يصبغه العنف المبتذل الذي لا مبرر يسوغه؟ العنف الذي يملأ البيوت والشوارع والمدارس والملاعب؟ العنف الذي شكل كلمة، أو سكين، أو مسدس، أو مبيد حشري، أو قيد، أو مقطع بلوتوث، أو مكيدة أو قنبلة، أو بقعة نقط، أو آلة عسكرية ضخمة تسحق بشرآ لاحول لهم ولا قوة؟ ماقيمة الحياة إزاء هذا العنف؟ ماقيمتها والعنف يضحك بالليل والنهار، ومن أشداقه تسيل حيوات كان كل ذنبها أن طرقها تقاطعت لمرة واحدة وأخيرة مع طريقه؟

إنَّني أكبر، وأفكر في أنني أقترب من الموت، لكن الموت لايقترب لاننا نكبر ولايبتعد لاننا صغار. الموت موجود، ونحن لانذهب إاليه ولا نعود منه.

إنَّني أكبر. وأتورط في سحر الكتب والقراءة أكثر فأكثر . لم تعد القراءة بالنسبة لي متعة بل غريزة كالجوع تماما، ومنذ وقت بعيد أدركت أن لا شي يمنحني الأمان مثل أن أجد نفسي بين الكتب . دائما، عندما ادخل أي مكتبة، أشعر بأنها مكان آمن كي أحيا فيه طويلا، أو حتى أُنسى . لن أخسر أحدا أو شيئًا ، ولن يخسرني أحد أو شيء، ولا أرغب في أن أكون غير ما أنا عليه هكذا خلقت وهذا ما أصلح له : أن أعي العالم وأتعامل معه من خلال كتاب.

إنَّني أكبر. وأفكر في أنني قد حصلت على أشياء كثيرة ، غير أن ذلك لا يعني أنني حصلت على كل ما أردته ، أو أن كل ما حصلت عليه كان مما أردته . ثم أشياء أردتها بشدة ، غير أنني لم أنلها فحاولت أن أتصبر عنها ، وثم أشياء نلتها لأنها جاءت وليس لأنها ما أردته ، وأحاول دائما أن أشكر الله عليها ؛ وفي مقابل كل ما أردته ولم أحصل عليه ، وما حصلت عليه رغم أنني لم أرده تمنيت يقيًنا لا أريد أن أحيد عنه ب : أن الله عادل ، لكن الحياة غير عادلة . الحياة ليست مكاًنا للعدل ، بل لاختبار حسنا تجاهه ، أو على الأقل هذا ما استخلصته مما مر بي ، وفي هذا الاختبار كنت كغيري من الناس أصيب في مرات ، وأفشل في أخرى ، وأبتهل إلى الله كثيرا أن يكون فشلي عن جهل لا عنت . لقد أدركت مبكرة أن قيمة ما نناله وما نحرم ليست في الأشياء نفسها ، بل في الطريقة التي نتعامل بها مع تلك الأشياء، نعمة كانت أو ابتلاء . وإذا كنا نعي دون جدل أن الابتلاء ثقيل ، فإن قلة يعون أن النعمة – كالابتلاء – ثقيييلة ، وأن شكرها أثقل من الصبر على ضدها!.

إنَّني أكبر. وليس بيدي أن لا أفعل . كل ما بيدي وأنا أكبر أن أعي كيف ينحتني هذا الكبر . ما الذي يأخذه مني ؟ وما الذي يضيفه علي ؟ وأين سأجد نفسي عندما ينتهي الدرب ، وترف الملائكة بأجنحتها من حولي، ويصير ما أعيه خارج الكلمات وأكبر منها ؟ وكم سأخسر حينها أنا التي آمنت أن الحياة خسران طويل ؟ أفكر الآن في موتي لأني أفكر دائما في بقائي ، وقد يبدو الأمر متناقضا لكنه ليس كذلك . أن نموت لا يعني أبدا أن لا نبقى ، وفي الوقت نفسه ، فأن نبقى لا يعني أبدا أن نكون موجودين . كلنا موجودون لبرهة من الوقت طالت أم قصرت ، لكن قلة منا يبقون إلى الأبد . وطوال حياتي التي مضت جاهدت كي أبقى ، ولم أحفل بأن أكون موجودة .ما قيمة وهج شمعة ستنطفئ بعد قليل ، أمام لمعان نجم ما زال يبرق منذ ملايين الأعوام ؟ ما قيمة كل ما أنجزته في حياتي إن خبت ناره لأنني رحلت عنها ، ولم أعد أنفخ عليها كي تتقد فيتذكرني الآخرون بين وقت وآخر ؟ ما قيمة أن أكون موجودة في مقابل أن أكون باقية ؟

إنَّني أكبر. و ازداد تشبًثا بأن لا أعرف ما قد تخبئه لي الحياة . لا أسعى إلى ذلك ، ولا أظّنني سأفعل . في أحد شوارع القاهرة فررت من بصارة اعترضتني كي تقرأ لي – كما قالت – بختي. لاحقتني وهي تقول : “وشِّك بيتكّلم، سيبيني أقرأ لك البخت”، فابتعدت عنها وأنا أردد : “ما أبغى”. أفزع من فكرة أن أعر ف ما قد يحدث لي، وكّلما فكر ت في الأمر بدت معرفة مبهظة: أن أحيا أمرآ ما مرتين، فرحا كان أم أسى. و أنا أحب أن أمضي في الدرب فاستكشف ما قد يفضي إليه، لا أتوّقى شيئًا فيه، أو أنتظر وصولي إليه. ما جدوى أن أعرف ما لن يمكنني تغييره، وفوق ذلك فإن معرفته قد تغيرني؟ أفهم توق الإنسان إلى أن يعرف، لكن في المقابل أفهم خوفي من أن أعرف قبل الأوان؛ لذا أختار أن أخاف على أن تنهكني معرفة كيف أن حياتي ستتغير في لحظة ما. أجل سينهكني أن أعرف، وأن أنتظر أن يحدث ماعرفته. يا للخيارة الفادحة ألا يكفي أن نخسر دون أن نعرف.

إنَّني أكبر. وأنغمس أكثر من ذي قبل في تأمل حياتي ، وكلّ الحيوات التي تقاطعت وتتقاطع معها . تدهشني فكرة تقاطع الحيوات والمصائر هذه . يدهشني أن يتقاطع معي أناس في كل مكان ، في الشوارع ، في الأسواق ، في أمكنة العمل أو الدراسة ، أو المستشفيات ، أو المطارات أو غيرها . وأفكِّر كثيرا في كيف أن كل هذه الحيوات تتقاطع بكلّ هذه الدقة ، و هذا التقدير ؟ و أتساءل عندما أتتقاطع مع أحدهم فهل يعني ذلك أن قدر أحدنا سبب في خلق قدر الآخر ؟ و أي القدرين أسبق إن كان الأمر كذلك أم أن الأقدار تتوازى في خلقها ثم تتقاطع في حدوثها ؟ و أفكِّر في كيف أن ملايين الحيوات ظلَّت تتقاطع طوال آماد مضتْ ، فيقود تقاطعها إلى أوضاع جديدة ، فيما تكتفي حيوات أخرى بالعبور فحسب مثلما يحدث في صالة انتظار مطار ما ، تتقاطع لأنَّنه قدر لها أن تتقاطع.

إنَّني أكبر. بوعي ممض ، يجعل من الحياة أحياًنا جحيما صغرى ، لكنِّي لا أملك أن أتخلَّص منه ، ولا أريد أن أحيا دونه عجزت عن أن لا أشعر في مرات كثيرة بأنَّني في المكان و الزمان الخاطئين، ليس لأنَّني أفضل أو أحسن ، بل لأن طباعي و أفكاري وطريقتي في أن أحيا حياتي لا تناسب هذا المكان ، ولا هذه اللحظة العصية من الزمان . إنَّني أكبر، وأحسد كلّ من نجا من شرك الوعي الحاد.

إنَّني أكبر. وأغدو أكثر هشاشة من قبل . ويؤذيني أحياًنا أن أشعر أنَّها هشاشة من يعي ويعرف أكثر مما يجب. إّنني أكبر ، وأميل إلى الوحدة أكثر من ذي قبل ، و أفكر دائما في أنَّني كنت سأكون من أهل الصوامع والِبيع ، لو أن الزمان تقدم بي. الوحدة لا تؤذيني ، و معها يمكن أن أعي هشاشتي فلا أحزن ، لأنِّي سأكون غير مضطرة لتبريرها ، وغير مضطرة للاعتذار عنها ، وغير مضطرة حتى لأن أرتبك إزاء رد فعل الآخرين تجاهها . في حياتي اليومية يمكن لي أن أكون مع الناس لبعض الوقت ، لكن الذي ينهك روحي أن أكون مع الناس طوال الوقت ، أو لفترات طويلة. تجربة الحياة كّلها – كما أرى – تكمن في التآلف مع الوحدة ، لأنَّنا نخوض حيواتنا فرادى مذ نولد وحتى نموت . وأعظم تجاربنا تجارب تتبدى فيها الوحدة بأوضح صورها مهما شاركنا فيها الآخرون : الولادة ، و المرض ، والخوف ، والفرح ، والألم ، والحمل ، و… الموت . الوحدة إذن ، مآلنا الأخير.

إنَّني أكبر. وأنفق جلَّ وقتي كي أفهم الزمن ، فلا أفهمه ؛ لذا أشعر أنَّه عدوي الخفي الذي يضرب دون أن يكون باستطاعتي درء ضرباته عنِّي . لاأعرف كيف يمضي ؟ و لم يمضي ؟ وكيف أنَّنا نحيا فيه و نعجز عن أن ندركه كما ينبغي له ؟ أهو شيء يمرنا و نمره، أم حالٌ تعترينا ؟ و إذا مضى فإلى أين نمضي ؟ أين تذهب كلّ أعوامنا التي تغادرنا ؟ أين تذهب ؟ و لِم لا يمكن أن نحتفظ بها في مكان ما كثيابنا و أشيائنا العتيقة ؟ إنَّني أكبر ، ويوجعني أن أتساءل طوال الوقت : أين تذهب الأيام الجميلة ؟ كيف تبدأ ؟ وكيف تجفُّ كأن لم تغْن بالأمس ؟ و كيف يمضني الحنين إذ يعيدني إليها ولا يعيدها إلي ؟ أحياًنا أمد يدي – في غمرة انفعالي – فأتحسسني كي أصدق أّني ما زلت هنا ، حتى وإن ذهبت أيامي الجميلة ، وأفكر في أن أياما جميلة أخرى ستأتي – ربما – وستذهب دوني ، وأّنها ستظل دائما شيئًا قريبا بقدر ما هو عصي على إدراكي معهما حاولت ؛ فأتألم.

إنَّني أكبر ، وتكبر معي صداقاتي كذلك . يكبر بعضها كي يبقى ، فيما يكبر قليلٌ منها كي يذبل ؛ لكن بم أشعر حينما تذبل صداقةٌ قديمةٌ أمام عيني ، دون أن يكون لدي ما أفعله أو أقوله ؟ بم أشعر حينما أراها وهي تتحلَّل يوما بعد يوم ، ليس بسبب سوء أحد أو شيء ، بل لأنَّها لم تعد تملك ما يبقيها لأمد أطول ؟ لقد كبرت إلى الحد الذي ينبغي معه أن تموت ، وَنضجت إلى الحد الذي بدأت تتغضن معه ، واستوت على عرشها إلى الحد الذي لم يعد يمكنها معه أن تنحني – و لو قليًلا – كي تمرعليها الأيام المليئة بانشغالاتي ، ومللي ، وشّكي ، وخيباتي.

إنَّني أكبر. وأحاول قدر ما يسعني أن أُدجن مخاوفي التي عجزت عن أن أبرأ منها . مخاوفي الصغيرة والعظيمة ، مخاوفي المضحكة أحياًنا ، وغير المفهومة ، وربما غير المبررة أحياًنا أخرى ، مثل : أن أخاف من الأمكنة المرتفعة غير المسيجة ، و أن أخاف من أن تسرع بي سيارةٌ ، وأن أخاف من الأمكنة المفتوحة الخالية ، وأن أخاف من اللحظة التي تهبط فيها طائرة تقّلني وتلك التي تصعد فيها ، وأن أخاف من حدة وعيي التي قد تقودني إلى الجنون.

إنَّني أكبر. وأتخيل أحياًنا أن حياتي- كلّ حياتي – مشهد قصير في فيلم طويل ، تعرضه صالة عرض شبه خيالية ، ويشاهده إنسان وحيد مرة ثم يمضي عنه . مشهد يبدأ وينتهي في دقائق ، لكنَّه يبقى في الذهن طويًلا ، لأن قيمته ليست في امتداده ؛ بل فيما يقترحه ، وفي المعنى الذي يحمله.
.
إنَّني أكبر. وتؤرقني فكرة أّني ” محدودة ” فيما الحياة واسعة وغامضة وتنتظر من يغامر . تؤرقني كذلك فكرة أن ما أملكه أقلّ دائما مما يتطّلبه الأمر ، وأن ما أريده عصي ، ويتطّلب أن أغادر الحال الإنسانية التي أنا عليها ؛ كي أبلغه ، وأفهم حينها كيف أن الحياة – كلّ الحياة كما أراها – كذبة وقحة وطويلة ، ورغم ذلك نتشبث بها ونتمنى أن تدوم إلى الأبد.

إنَّني أكبر. وهذه هي حياتي : طويلة وثقيلة وغير مكتملة لأنِّي لم أمت بعد ، لكّنها ناضجة . ربما كانت سيئة أحياًنا ، لكن ذلك لا يعني أبدا أنَّني كنت سيئة . كنت أحاول ، وقد فشلت في مرات وسأفشل ، ونجحت مرات وسأنجح. نحن لا نبذل مجهودا كي نبلغ عمرا ما ، بل نبلغه لأنَّنا نبلغه و هذا هو ما يحدث ؛ لكنَّنا مسؤولون عن أن نبلغه بما يليق به ، أو على الأقل بذخيرة تليق به ، فهل ما أملك من الذخيرة ما يكفي ؟ هل شبعت من حياتي ؟ هل فهمت تعقيدها و حساسيتي إزاء هذا التعقيد ؟ إنَّني أكبر ، لكن هل نضجت بالقدر الذي يستحقه عمري ؟ لا أدري ، كلّ ما أعرفه الآن أنَّها حياتي، ذاك ما حدثْ.