سمارا نوري
أنقسم المسلمون إزاء المنطق الارسطي الى قسمين متضادين، فمنهم من أعتنقه بحرارة وتعصب له وعدّه مكملآ للقرآن، ومنهم من أنتقده وحاربه وجعله مرادفآ للزندقة حيث كان شعارهم “من تمنطق فقد تزندق”.
أغلب من أنتقد هذا المنطق كان في الغالب من أجل الدفاع عن العقيدة الدينية، ونستطيع أن تستثني منهم مفكرآ واحدآ هو ابن خلدون، فقد حاول هذا المفكر نقد المنطق لكي يبين قصوره عن فهم الحياة الاجتماعية كما هي عليه في الواقع.
أهم من تأثر بهم ابن خلدون في هذه الناحية هم الغزالي وابن تيمية وهما أعظم من نقد المنطق الارسطي في القرون الوسطى كلها سواء في اوربا او البلاد الاسلامية.
وقبل الحديث عن آراء الغزالي وابن تيمية، لابد من المرور على رأي الشكاك والجاحظ اللذين سبقوهما في نقد المنطق.
رأي الشكاك
جماعة ظهرت في العالم الاسلامي وكان أثرها فيه مشابها الى حد ما اثر السفساطئيين في الحضارة الاغريقية، وقد أتلفت اغلب كتبهم وأحرقت الا ما يتناقله النقاد عن كتبهم من آراء مشوهة وعبارات منقوصة.
من أهم شخصياتها ابن الراوندي والطبيب المشهور الرازي.
كان الشكاك يستهينون بوجه عام بالجدل المنطقي الذي كان مسيطرآ على العقول في زمانهم ويرونه سلاحآ في أيدي الفرق المتنازعة لايوصل الى يقين. فكانوا يقولون: “كل ما ثبت بالجدل فالجدل ينقض”.
ومن المحتمل جدآ أن الغزالي قد اطلع على آرائهم واستفاد منها.
يقول الشكاك: “إنا وجدنا الديانات والآراء والمقالات، كل طائفة تدعي أنها إنما اعتقدت ما اعتقدته عن الاوائل، وكل طائفة منها تناظر الاخرى فتنصف منها، وريما غلبت هذه في مجلس، ثم غلبتها الاخرى في مجلس آخر، على حسب قوة المناظرة وقدرته على البيان.
ومن المحال أن يبدو الحق الى الناس فيعاندوه بلا معنى، ويرضوا بالهلاك في الدنيا والاخرة بلا سبب، فلما بطل هذا صحّ أن كل طائفة إنما تتبع إما ما نشأت عليه، وإما ما يخيل لاحدهم أنه الحق دون تثبت ولا يقين”.
رأي الجاحظ
كان مولعآ بالقياس المنطقي وكان من أئمة المعتزلة، ولكنه لم يكن مقلدآ لهم في آرائهم. فقد كان من أولى العقول المبدعة والثقافة الواسعة.
وكثيرآ ما كان يخالف المعتزلة في بعض وجهات نظرهم.
هناك نظرية جاء بها وهي على أهمية كبيرة في علم المنطق وخالف بها المعتزلة، لكنها مع الاسف أتلفت وضاعت كما ضاع الكثير من كتبه الا ما وجد في كتب الناقدين والمترجمين.
النظرية في مجملها تناقض النزعة العقلانية التي هي من مباديء المنطق القديم.
يبين الجاحظ في نظريته أن العقل البشري لايستيطع أن يرى الحقائق الخارجية رؤية صحيحة تامة، فهو محدود في مجال معين لا يستطيع أن يتعداه، مثله في ذلك كمثل البصر. ولهذا فأنه من الظلم أن نطالب الناس بأن يحكموا في الامور حكمآ متشابهآ. أن مجال عقولهم مختلف، ولابد من أن تأتي أحكامهم مختلفة، وهذا أمر طبيعي لا مفر منه.
الجاحظ يوافق المعتزلة على قولهم بأن الانسان قادر على توجيه إرادته كما يشاء، ولكن هذه القدرة لاتعني في رأي الجاحظ أن الانسان قادر أن يفكر كما يشاء.
أن هذه النظرية الجاحظية رائعة حقآ وهي تقرب قربآ كبيرآ مما توصل اليه علماء الاجتماع الحديث في موضوع “أجتماعية المعرفة”. والظاهر أن هذه النظرية لم ترق في أعين الفقهاء والمتزمتين فسعوا الى إتلافها او ضياعها.
إن نظرية الجاحظ على أي حال لها أثر غير قليل في تفكير الغزالي.
رأي الغزالي
ليس من اليسير التعرف على الغزالي من خلال هذا الموجز القصير فقد كان الرجل ذا عقلية فذة يندر أن يظهر لها مثيل طوال أجيال متعاقبة. لقد كانت له شخصية غريبة تختلف عن شخصية غيره من الفقهاء او الفلاسفة اختلافآ بينآ.
كان الاثر الذي أحدثه الغزالي في التفكير الاسلامي عظيمآ جدآ يندر مثيله. من جملة هذا الاثر أنه لفت أنظار المسلمين الى أهمية المنطق والى وجوب دراسته. ويعتبر هذا العمل نقطة تحول في موقف المسلمين تجاه المنطق الارسطي.
من أقوال الغزالي الشهيرة: ” من لا يحيط بالمنطق فلا ثقة بعلومه أصلآ”.
وهو من أعظم من نقد المنطق الارسطي، ففي رأيه أن البرهان المنطقي قاصر عن أن يصل بالانسان الى اليقين في القضايا الالهية والروحية. وأن هذه القضايا أعظم من أن تدركه عقولنا المحدودة، إنها خارجة عن نطاق البرهان المنطقي والنظر العقلي.
يعتقد الغزالي أن العقل المنطقي هو أعلى مرتبه وأصح أستنتاجآ من الحس، ولكنه في الوقت ذاته أدنى مرتبة من أدراك آخر وأسمى وهو الادراك الذي يتمثل في وحي الانبياء والكشف الصوفي.
وهو يشبه في هذا النقد الفيلسوف الالماني كانط الذي ظهر بعد سبعة قرون تقريبآ.
لم يكتف بنقد مبدأ العقلانية فحسب بل أنتقد مبدأ السببية وهو في هذا يشبه فيلسوف آخر عاش قبل كانط بمدة قصيرة وهو الفيلسوف الانكليزي هيوم.
وخلاصة رأي الغزالي في مبدا السببية هي: أننا نشاهد تعاقب حادثة بعد أخرى، فنصطلح على تسمية الاولى سببآ والثانية نتيجة. إن ذلك مجرد عادة عقلية اعتدناها. وهذا الاعتياد لا يمكن أن نستدل به على أن هناك ترابطآ ضروريآ بين الحادثتين المتعاقبتين.
رأي ابن تيمية
وهو من الشخصيات الفلسفية الكبرى في الاسلام ويلي الغزالي من حيث قوة الابداع الفكري ولاسيما فيما يتصل بالناحية المنطقية.
الفرق أن الغزالي يأس من الناس في اواخر أيامه واعتزل الناس. أما ابن تيمية فلم ييأس ولم يعتزل وظل مشاركآ للناس في حياتهم يكافح فيها كفاح المستميت ولم يسلم من الاضطهاد والسجن لجرأته وصراحته حتى أنتهى الامر به اخيرآ أن مات في السجن.
وصل نقد المنطق على يد ابن تيمية الى القمة. ولم يقتصر في نقده المنطق على نقض مبدأ العقلانية والسببية كما فعل الغزالي إنما حاول نقض الاصل الذي يقوم عليه الاستنباط المنطقي والقياس. وهو في هذا يشبه فرنسيس بيكون و جون ستيوارت مل.
حيث يرى أن الكليات العقلية قد تكون بديهية في أحد العلوم كالهندسة ولكنها ليست كذلك في علم الطب مثلآ.
أن الكليات العقلية في رأي ابن تيمية موجودة في الاذهان وليس لها كيان خارجي قائم بذاته والبرهان المنطقي القائم على هذه الكليات لايوصل اذن الى علم اليقين.
خلاصة القول
كما تبين سابقآ أن الحركات الفكرية الأربعة كانت تحاول أن تنتقص مبدأ العقلانية والمنطق الارسطي.
وكل محاولة تستفيد من المحاولة السابقة وتسعى الى تطويرها حتى وصل النقد قمته على يد ابن تيمية او ما اسماه في احد كتبه ” نقض المنطق”.
يقول ابن تيمية أن المعرفة البشرية تنقسم الى نوعين دينية و طبيعية.
أما المعرفة الدينية فلا حاجة بنا الى أستعمال المنطق، اذ أننا نستمدها من السلف الصالح ولا مجال هنا لان نتمنطق او نجادل فنفسد بذلك ديننا وتعاليم سلفنا.
وأما المعرفة الطبيعية فالتمنطق فيها لا يوصل الى علم يقيني لانها تجريبية أكثر مما هي قياسية استنباطية.
وهو بذلك اسس بشكل عميق للمنهج الاستقرائي الواقعي الذي انتهجه ابن خلدون.
ولو اتيح للحضارة الاسلامية أن تواصل نموها وازدهارها لربما رأينا المنهج الاستقرائي يتطور أكثر مما رأيناه على يد هذين المفكرين.
المصدر: كتاب منطق ابن خلدون – د. علي الوردي