ملف خاص نشرته جريدة المستقبل العراقي ببغداد في 12/4/2012
كاظم فنجان الحمامي
لا يختلف اثنان إن العم أبو صلاح, ونعني به (الأستاذ الكبير والمربي الفاضل: ياسين صالح العبود), ابلغ منا كلنا وأكثر دقة وفصاحة عندما يتحدث عن تاريخ البلد الخصيب (أبو الخصيب), وأوسع منا معرفة عندما يتكلم عن رجاله وبساتينه وجداوله ومدارسه ومساجده وتقسيماته الإدارية, بيد انه لم يستطع في الفصل التاسع أن يواكب كل المسارات المتشعبة التي قطعتها قوافل الإبداع الطويلة, وما حققته تلك القوافل من انجازات باهرة سجلها أبناء (أبو الخصيب) في سجلات المجد والتألق, وعلى وجه التحديد في المسارات العلمية الميدانية, البعيدة عن البيئة التي عاش فيها العم (أبو صلاح). .
لقد تكلمنا قبل مدة عن العالم الجيولوجي المتميز (فاروق بن عبد العزيز القاسم), وسنتكلم في مقالة قادمة عن الخبير الجيولوجي اللامع (قاسم بن محمد العبد الوهاب), ونتكلم اليوم عن الخصيبي (نوري عبد القادر حسن الحبيب البياتي), الذي تفوق على أقرانه ببحوثه الحقلية والمختبرية, فنجح في تطوير أحدث أنواع الأسمدة الزراعية, التي كان لها الدور الفاعل في حقبة الثمانيات من القرن الماضي. .
ولد الدكتور (نوري عبد القادر) عام 1935 في بستان من بساتين (أبو الخصيب) بالبصرة, ثم التحق بالابتدائية في سن السابع بسبب وعكة صحية, وأنهى تعليمه الابتدائي بتفوق ليلتحق بالمتوسطة, ثم انتقل إلى الثانوية المركزية بالعشار, واستطاع أن يجتاز امتحانات البكالوريا بأعلى المعدلات, وكان شغوفا بمواد الفيزياء والكيمياء والرياضيات, فاستحق القبول في كلية الطب, لكنه تركها وتوجه إلى كلية الزراعة, بعد أن فشل في التأقلم مع كوابيس علم التشريح, فلم تصمد طبيعته الرقيقة المسالمة أمام تحديات التشريح والجراحة, فاختار كلية الزراعة بجامعة بغداد لأنه وجد فيها الملاذ الطبيعي الذي ينتمي إليه, حيث الماء والخضراء, وربما الوجه الحسن, وتخرج فيها بتفوق عام 1959, ثم واصل دراساته العليا خارج العراق, فنال الماجستير في الحقليات عام 1965 من جامعة كاليفورنيا بولاية نبراسكا, ونال الدكتوراه عام 1968 في الجامعة نفسها في تحليل التجارب الزراعية, عاد بعدها إلى بغداد ليعمل في معهد البحوث والمشاريع الاروائية رافضا كل المغريات التي عرضت عليه للعمل في المراكز العلمية الامريكية. .
كان المختبر بيته وصومعته وعالمه الخاص, الذي أمضى فيه أجمل أوقاته, فانصرف إلى التجارب الميدانية, وسجل سلسلة من النجاحات المتواصلة في هذا المضمار, كان لها الأثر الكبير في إنعاش المشاريع الزراعية في الريف العراقي الجميل, بيد انه لم يستمر طويلا, فقد جاء رفضه المتكرر لكل الانتماءات الحزبية ليضع المعوقات في طريقه, فأقصته التقلبات السياسية من عمله الميداني, ورمته الأقدار خارج مختبراته, وأجبرته على الالتحاق بالهيأة التدريسية لكلية الزراعة بجامعة بغداد, لكنه عاد ثانية ليسجل المزيد من الانجازات العلمية الرائعة, نذكر منها مشاركته في تأليف كتاب (خصوبة التربة والأسمدة) مع اثنين من عمالقة الكلية, ونعني بهم: (أ. د. عبد اللطيف العيثاوي, والأستاذ الدكتور حسن يوسف الدليمي), ووقع عليه الاختيار ضمن العلماء الذين اختارتهم وزارة التعليم العالي والبحث العلمي للإشراف على مشاريع الخطة الخمسية لتطوير الزراعة في العراق, وقام بزيارات عديدة للمعاهد والمراكز الزراعية في ألمانيا وهولندا, وكان من خيرة رؤساء الأقسام, الذين تعاقبوا على رئاسة قسم التربة في الكلية, واستمر في رئاسة القسم حتى وافته المنية في السابع من حزيران عام 1990, وشيعته جامعة بغداد في موكب مهيب إلى مثواه الأخير في مقبرة الكرخ. .
يعود للدكتور (نوري عبد القادر) الفضل الكبير في تطوير سماد (البتموس Peat Moss) المستخرج من صنف من نباتات (الموس), التي تتألف من أكثر من (300) صنفا, لها القدرة على تعديل نسبة الأكسدة في التربة, وإمدادها بالمواد الحمضية على حساب المواد القلوية, وللبتموس خاصية فريدة على امتصاص الماء, وتعزيز خصوبة التربة. .
انكب الدكتور نوري على دراسة وتطوير هذا النوع من السماد الطبيعي, فنجح في إعادة تصنيعه وتغليفه بعبوات وقوالب وأقراص صغيرة وكبيرة لحساب شركة الرافدين بالتعاون مع مديرها الخصيبي (السيد حازم النواب), فلقيت رواجا كبيرا في الحقول العراقية والخليجية, وكانت إحدى الأسباب المباشرة, التي أسهمت في تحقيق أعلى معدلات الإنتاج, بسبب فاعليتها الملموسة في تنشيط خصوبة التربة. .
تعرف (نوري) في كاليفورنيا على حسناء تركية (سفيم يوسف اكسوي), كانت تدرس الاقتصاد المنزلي, فأحبها وتزوجها, وكانت خير عون له في حياته. أنجبت له ثلاث بنات, الكبرى (سمارا) تخرجت في جامعة بغداد قسم الهندسة المدنية, والوسطى (رويدا) تخرجت في جامعة النهرين – صدام سابقآ – قسم الهندسة الالكترونية, والصغرى (زينة) تخرجت في الجامعة نفسها قسم الهندسة الكيماوية.
كان أبوه (عبد القادر حسن الحبيب) مديرا لشرطة (أبو الخصيب), وعمه (بهجت حسن) مديرا لإحدى مكاتب خطوط الشحن البحري في شط العرب, وهو أيضا صاحب شركة (Soft Ocean Lines). .
كان يحب القراءة, ويعشق العمل في المختبرات, وكان يجيد العزف على آلة العود, حتى برع في العزف, واستطاع أن يؤلف مجموعة غير مسجلة من القطع الموسيقية, ويشارك في الاحتفالات الشعبية العربية, نذكر منها الحفل التضامني, الذي أقامه المركز العربي الفلسطيني في أمريكا عام 1967 بعد النكسة. .
كان رحمه الله مربيا فاضلا, متحررا من القيود الاجتماعية المتحجرة, يميل إلى مساعدة الناس جميعا من دون أن يفرق بين هذا وذاك, وكان من المعروفين بولائهم المطلق للعراق وشعبه, كرّس حياته العملية كلها في خدمة المشاريع الزراعية بين النهرين من دون أن يفكر بالنواحي الربحية والنفعية, لم يكن انتهازيا, ولا وصوليا, بل كان إنسانا جادا مثابرا, مخلصا لوطنه, بارا بأسرته, محبا لزوجته, شديد الاهتمام ببناته. كانت حياته أشبه بحياة طلاب الدراسات العليا, فقد عرفه الناس بملابسه العادية كسائر الطلاب والتلاميذ, فالتواضع هو العلامة الفارقة في مظهر هذا الرجل, ولئن كان هناك امتياز, فهو امتياز في درجته العلمية, وفي قدراته الذهنية المتجددة, وفي كفاءته التدريسية الفذة.
ارتبط بصداقة حميمة مع الوزير الكويتي (السيد أحمد النقيب), ووزير الزراعة العراقي (حسن فهمي), والأساتذة جليل القرة غولي, وفاخر الركابي, وكمال عبد الأئمة, وغازي عبد الرحيم, والدكتور علي التميمي, والدكتور عبد الله العاني, والدكتور عزيز العبيدي, والدكتور ناجي عبد القادر. .
ختاما نقول إن السيرة العامة لأبناء هذا البلد الخصيب تحتاج إلى تضافر الجهود الجماعية في سبيل كتابة الصفحات المشرقة المشرفة, التي ينبغي أن تُطرز فيها أعمالهم الجليلة, وأياديهم البيضاء, وجهودهم المتواصلة, وان ما كتبه عنهم العم (أبو صلاح) لم يكن كافيا لتغطية انجازات رجال العلم والقلم, ولم يكن كافيا لذكر فضائلهم والإشادة بهم, ولعل النية تتجه بتوفيق الله إلى تأليف كتاب شامل يتناول كل المسارات التي قطعتها قوافل أبناء البلد الخصيب في الاتجاهات المتشعبة. .
الجريدة التي نشر فيها الموضوع على صفحة رقم 17 .. أضغط هنا