لازلت أحضر دروس التأمل، فضولآ وأحيانآ هروبآ من الصخب والضجيج والمتطفلين ثم صارت بحثآ، كنت أبحث عن نفسي في البداية فالتأمل أشهر رحلة للتعرف على الذات، لكني أكتشفت ﻻحقا أن الهدف الذي يدفعني للذهاب أعمق بكثير من رغبتي في التعرف على نفسي.
في الدرس الثالث كانت المعلمة كبيرة جدآ في السن تبدو على محياها مظاهر السكينة والاطمئنان وشيء اخر تراه وتحسه، رسمت مثلثآ على السبورة البيضاء لتشرح الاعمدة الرئيسية للتأمل.
العقل في قمة المثلث، يستند الى الفكر والعادات الراسخة في القاعدة.
تعرض مختلف أمور الحياة على الفكر اولا – المصنع الاول والاساسي لتكوين الافكار – وفيها يتم الاختيار والقرار، تنتقل بعدها الى مركز العادات لتثبيتها او محوها او مرورها بشكل عابر لايشكل اي عادة، ومن ثم تتجه نحو العقل لتكون الصورة النهائية للافكار التي تبنيناها بالمنطق والالية التي أخترناها.
يشبه هذا المثلث الى حد ما طفل في الاعلى يعتمد سلوكه وتصرفاته على الام والاب بدرجة كبيرة في القاعدة، فأذا كان هناك توافق بين الابوين ونظام تربوي سليم وجو صحي في البيت كانت النتيجة طفل سعيد ومتوازن قادر على مواجهة الحياة وأتخاذ القرارات المناسبة في مراحل نموه المختلفة.
الفكر في القاعدة اليمنى هو مصدر الاختيار والقرار، فأذا اردت أحتساء كوب شاي فأن فكري يقرر أن كنت أرغب به مع السكر او بدون سكر على سبيل المثال ومع تكرار نفس الاختيار فأن القرار يتحول الى عادة لاأرادية او أدمان على القاعدة اليسرى، تشبه الى حد كبير الندبة التي تترك أثرآ عميقآ وواضحآ كعلامة فارقة في سلوكيات الانسان وأطباعه.
الاسم، الوظيفة، الجنسية, الديانة لاتُعرّف الانسان، التعريف الحقيقي للانسان هو أن الكائن البشري عبارة عن نقطة نور تحتجب في داخله ويمثلها الجسد والملامح وبقية الصفات المرئية.
مثل سيارة جميلة ليس لها أي قيمة ولاتملك أي مقدرة على الحركة والانطلاق بدون قائد محترف في داخلها.
ذلك النور أنما هو نقطة من ذلك المصدر الاعلى للنور الالهي.
لذلك كانت العناصر الاساسية لهذا الكائن النوراني هي الحب والسعادة والسلام بشكل أساسي، أما الصفات الانسانية التي يغلب عليها الطمع والقلق والنكران وجميع الصفات التي تثير المشاعر السلبية وتملأ الصدر بالضيق فأنها مكتسبة ودخيلة يتعلمها الانسان خلال مراحل نموه وتطوره ثم يتعود عليها حتى تصبح عادة مؤصلة وعلامة بارزة في شخصيته كل حسب تجربته والبيئة المحيطة والمؤثرات الخارجية التي نشأ خلالها.
لكي نعود الى تلك العناصر الاساسية ونسترجع الفطرة البدائية التي مصدرها النور والضياء فانه يتوجب علينا القيام بمحو العادات التي قام العقل بتثبتها وتبنيها بسبب التكرار المستمر والذي تحول الى أفعال لاأرداية مع الزمن.
ولأعادة تصميم هذه القيم في داخل النفس الانسانية فأنه يتوجب على الانسان اللجوء الى أدوات التأمل عن طريق برمجة اﻻفكار وأعادة تأهيلها وتصنيعها لخلق طاقة ذات ذبذبات خارقة قادرة على منح اﻻنسان ريموت كونترول للتحكم بنوعية اﻻفكار وكميتها.
قد يبدو الكلام سهلا او نظريآ بعيدآ عن التطبيق عند سماعه او قراءته للمرة الاولى او حتى مرات، ولكنه في الحقيقة واقعي جدآ وسهل التطبيق عند الحصول على المعرفة اللازمة واﻻدراك واﻻرادة لخوض هذه الرحلة واﻻستمتاع بها.
أعظم أستجابة للتأمل وأعلى مستوياته عندما يتمكن الكائن البشري من الاتصال بمصدر النور والالهام والقوة والجمال ثم الاغتراف بطمع من ذلك المصدر الالهي.
ذلك القرب واﻻتصال هو المفتاح والمدخل الرئيسي الى التأمل وعالم السلام في عالم خاصم السلام وهجره.
في أحيان كثيرة عندما نقوم بالتواصل مع الله عز وجل، نطرح الاسئلة والاسئلة لكننا ننسى أن نعطي لانفسنا وقتآ لاستشعار ومعرفة الجواب الذي غالبآ ما يكون تلقائيآ وسريعآ ان أحسنا الصمت والتوقف والاستماع.
من خلال تجربتي البسيطة في هذا التواصل فأني أستطيع أن أضيف بعض المعاني الخاصة لتقريب المعنى.
كثير من البشر يدّعون معرفة الله ولكنهم يجهلون كيفية التواصل معه بشكل شفاف ومباشر بلا حواجز ولا رسميات ولا بيروقراطية ولكن بقلب مفتوح وأحساس صادق ونبيل.
كيف أتواصل معه جل وعلا؟
كيف أصل اليه وهو في عليائه؟
كيف أستشعر قربه؟
كيف أستمع وأستمتع وأحلق بعيدآ في أعلى سمائه؟
أليكم وصفتي، بسيطة خالية من أي تعقيد وفعالة بشكل أكيد .. على الاقل بالنسبة لي.
الاتصال الحقيقي يحتاج الى خلوة وهدوء جميل، قد يكون في ركن ما في البيت او في السيارة او في فضاء مفتوح او في مكان عبادة او في سجدة طويلة او أي مكان يجعلك ترتاح وتطمئن في التحدث بطلاقة وشفافية وحرية بلا قيود ولاخجل ولا حجاب.
بعدها ستتمكن من الاتصال به لو كنت في عرس او ملعب كرة ولن تحتاج الى الصمت اوالانعزال لانها ستتولد بسلاسة وتلقائية في داخلك.
أجلس هناك، أنفصل عن العالم، أرحل عن جسدك، أنسى ملامحك، تذكر بأنك روح حية مليئة بالنور، أبدأ الحديث، أستشعر بيقين حاد قربه وحضوره ، قد يكون مجرد فضفضة او شكوى او شكر او حاجة او أمنية او أعتراف.
كلمات عامية واخرى قرآنية، دعوات حارة وأبتهالات صادقة، نداء عميق وصوت عالي لكنه مكتوم، عيون مغرورقة بدموع ساخنة وقلب ينبض كطبل مجنون وأحشاء ترتفع وتنخفض وأنين لايسمعه الا هو.
لكي تصل الى تلك الحالة الروحانية والحقيقية مع القوة العليا عليك أن تستيقن وجوده بالضبط كما تفعل وتنفعل عندما تحادث أحب وأقرب الناس الى قلبك ونفسك .. ولله المثل الاعلى.
العبادة الروحانية او ما يسمونه التأمل ليس رياضة نفسية او تدريب وجداني ينقلك ببعض الكلمات او بقاموس من الكلمات الى حالة السلام والسعادة التي ترجوها، الموضوع أكبر وأعمق ويتجاوز مجرد تمتمة كليشة جميلة او سماع موسيقى ملهمة او حتى السيطرة على بعض المشاعر السلبية وأستبدالها بالتركيز على مفردات أيجابية.
التأمل بدون ذلك الاتصال المباشر بالخالق لن يكون الا تمرين وقتي وقصير على الاسترخاء وبالتأكيد لن يكون له أي فعالية او تأثير في المحن والمطبات وحتى خلال اليوم العادي.
الانسان مخلوق خطاء كما نعرف لن يبلغ الملائكية، لكن يستحيل أن يكون محض أبليس أيضآ.
لاأعتقد أنه يصعب على أي أنسان أن يعرف المؤشر الذي يقف عليه في خط العرض والطول الممتد بين الخير والشر وبين أن يكون روحانيآ او ماديآ.
في داخل كل منا بوصلة ربانية لاتخطيء مهما أخطأنا، دقيقة وحساسة للغاية، بها وعن طريقها يستشعر الانسان مكانته بعيدآ عن أنطباعات الاخرين والمجتمع.
من خلالها تستشعر بيقين مكانك على ذلك المدى بين الصح والخطأ، الخير والشر، الحلال والحرام، وعلى أساسها يكون مقدار السلام الذي تعيش فيه.
فطريآ يفرح الانسان عندما تميل كفة الميزان الى الخير والصواب، يشعر بنوع من الامان وعندما يطمئن تسكن نفسه فأن سكنت أستطاع أن يتذوق معاني السلام، وعندما يكون في سلام فأنه لاأراديآ وبغض النظر عن كل الظروف والاحوال يكون سعيدآ، فأن أصبح سعيدآ صار مصدرآ فياضآ للحب والعطاء.
ولن تكسب هذه الكفة الا بالتواصل الدائم والقرب الجميل من الله كشرط أساسي بغض النظر عن صلاحية الاعمال والنيات.
والعكس صحيح.
يشعر الانسان بالهموم والضيق والملل وأن كان من أغنى الاغنياء وأكثرهم شهرة وفي تمام العافية لاينقصه شيء من مباهج الحياة ونعيمها ، ولكن بوصلته الداخلية تشير الى أنحراف شديد الى الجهة التي تجلب له الشؤوم والكرب والفراغ مهما أمتلك.
وهذا يفسر تعاسة أكثر الاثرياء وأعظم الناجحين وسعادة أفقر الخلق والعباد المبتلين.
على قدر ذلك الاتصال تكون الراحة ممكنه والاسترخاء تلقائيآ في دنيا تملئها التحديات والمنغصات والكوارث والنكبات.
على قدر ذلك النقاء تكون الصلاة ممتعة والخشوع لاأراديآ.
على قدر ذلك القرب يكون الدعاء والحوار والحديث مع الله لذيذ للغاية.
على قدر ذلك التواصل يكون التأمل والأسترخاء والأستمتاع بكل نعم الله ومباهج الحياة سعادة حقيقية مصدرها القلب لا شيء في الخارج.
بعد تلك التجربة الفريدة يتشكل الايمان.
وعلى قدر ذلك الايمان تتشكل الأماني والأحلام لتصبح سماوية وتتحرر النفس من الجسد والناس والعالم ومتطلباتهم الارضية.
وهو تفسير معقول عندما يقال أن فلان له وجه نوراني، ليس لعلامة في الجبهة او رمزآ او مظهرآ خارجيآ او مسمى او ديانة او طائفة او منصب او عائلة.
أنه الشيء الوحيد الذي يشترك فيه كل البشر والذي يعرّف كل البشر بسواسية مطلقة.
نقطة النور.
لكنها تطغي على بعض الوجوه فتفيض الملامح نورآ وضياءآ وراحة تشد الاخرين بجاذبية غريبة، وتصارع عند البعض الاخر لتحيا وتتحرر مهما أوغل الانسان بعيدآ عن الحق والطيبة، تظل تلك النقطة حية لاتموت وأن خبتت وأختفت معالمها في المظهر الخارجي.
في تلك النقطة سرك وسر كل أنسان.