سمارا نوري
كنت قد قطعت وعدآ بعدم شراء أي كتاب جديد بعد المعارض التي زرتها وكمية الكتب التي أشتريتها.
لست من هواة شراء الكتب لزينة منزلية ولكني أعلم بأن رجوعي لكندا أمر حتمي وأحاول أغتنام فرصة وجودي في الشرق وتمويل مكتبتي ما يكفيني لقضاء بقية عمري بعد الرحيل.
دخلت محل بوردرز لبيع الكتب ولم يكن في بالي أي نية لاقتناء أي كتاب، مررت بشكل خاطف بجنب أحد الرفوف ثم وجدت شيئآ يجذبني بعد عدة خطوات لارجع الى نفس المكان، لاادري هل هو عنوان الكتاب الذي لمحته ام صورة الطفل على الغلاف.
ولأول مرة أبدأ بقراءة كتاب بعد شرائه مباشرة، أحسست بأن شيء فيه يخصني وشيء آخر يناديني.
بعد القراءة في أول فصلين أحسست بأن الهواء من حولي قد أنقطع وأن قلبي سيتوقف أن لم أترك الكتاب فورآ.
لست ممن عاش حياة آمنة بعيدة عن الكوارث والمآسي وقد أصبحت مهيأة نفسيآ لمفاجأت الحياة ومنعطفاتها الحادة ولكن لا تزال معاناة الاطفال وقصصهم تشكل نقطة ضعف لا أستطيع تجاوزها.
أبشع وأفظع ظلم هو ما يوقعه المجتمع او الاسرة او أي فرد مريض بحق طفل بريء لايملك الا قلب أبيض يملأه الاشرار سوادآ والامآ لاتمحيها الايام والسنون.
فما بالك عندما يكون ذلك الطفل حساسآ نابغآ مميزآ عن بقية أقرانه بكل المعايير والمقاييس الانسانية.
مهما تكن وحشية الانسان وتخلف المجتمع وقسوة الظروف فأن الله يهيآ أقدارآ لطيفة ويسوق للمظلوم هبات جميلة من دون منية البشر وأفضالهم المحسوبة.
لست متشائمة ولا أبالغ أن قلت أن الانسانية تحتضر في كوكبنا وأننا نعيش بين الاموات في كل مكان نختلط بهم ونأكل معهم ونادرآ ما نلتقي بأحد من الاحياء ممن لازال ينبض بمشاعر حية وأحاسيس رقيقة وصفات تكاد تكون مثالية.
تكلمت كثيرآ في مدونتي ولن أتوقف عن صناعة الانسان في أمة ضاع فيها الانسان وأنحدر لادنى المستويات الفكرية والعلمية والخلقية والثقافية والانسانية.
وقد ضرب هذا الطفل المجهول الابوين أروع الامثلة وأعظمها في صناعة أنسان بقدرات ذاتية ومواهب شخصية ورعاية ألهية وأصرار وعزيمة فولاذية.
لاينكر أحد دور الابوين في تربية ورعاية وأحتضان الابناء ولكني أؤمن بشدة بأن هذا الدور ثانوي ومحدود الصلاحية ينتهي عندما يبلغ الفرد ويصبح مسؤلا مسؤولية تامة وكاملة في بناء شخصيته وصقل مواهبه وأختيار طرقه ومستقبله بخطى ثابته تقوم على ستراتيجية واضحة وهدف نبيل يتناسب والسبب الذي خلق من أجله.
اليوم بالذات أصبح الشباب مهمشآ ومغيبآ وأبعد ما يكون عن الجدية والمثابرة والالتزام بأسلوب حياة صحي يخلق منهم ومعهم أمة سليمة وعقول ناضجة ومستقبل مشرق.
الاغلبية تميل الى التكاسل والتواكل والاسراف في الترفيه والانخراط في الامور السطحية وتضييع الوقت بشكل محزن بلا وعي ولاأدراك لقيمة الحياة والهدف الذي من أجله يعيش.
وبالتالي هجرت الكتب وضاعت الاولويات وفرغت النوادي الصحية والرياضية وصار الليل نهارآ والنهار ليل الا من رحم ربي من العقول الراقية والنفوس التي تأبي التقليد والانصياع وأن صار المجتمع كله بهذا الحال.
لقد وهب الله الكاتب مميزات تجعله حاله فريدة ومميزة أكثر بكثير من مجرد كونه أنسان عادي بلا نسب.
هذا بالاضافة الى تلك المقدرة الادبية والموهبة الفنية التي تفوق الاعجاب، كنت أشعر وأنا أقرأ بين السطور كطفل مبهور بحركة شفاه أنسان بالغ يتحدث بسرعة وطلاقة بكلمات تشبه الموسيقى أكثر من كونها نصآ أدبيآ.
مع ملاحظة بسيطة لم تشكل لي عائقآ في الاستمرار او الملل من القراءة وهي كثرة الاعادة والتكرار لبعض الكلمات والجمل والاحداث.
أخيرآ أريد أن أبوح للكاتب بأنه ليس وحيدآ في تجربة التسلط والاقصاء والمحسوبية التي نكاد نتنفس بها في مجتمعاتنا الشرقية التي لاتخلو منها كل بلداننا من المحيط الى الخليج.
بأسف بالغ ومرارة أليمة وصراحة شديدة أقول أن مجتمعاتنا على الاغلب عاقة بأبنائها لاقدرة لها على الاحتواء والعطاء ولكن بنسب متفاوته وقصص وسيناريوهات مختلفة، أنظر لهؤلاء المنسيين والمغلوب على أمرهم عندما تستنح لهم فرصة العمر للعيش في دول تحترم الانسان والانسانية كيف يتحولوا الى أحياء مبدعين بعد أن غلب عليهم الموت والمعاناة لعقود من الدهر.
وعيت وأنا صغيرة معاناة أبي في الاقصاء والظلم المجتمعي وتهمته أنه كان عالمآ وباحثآ رفض الانتماءات الحزبية والانخراط في نظام البعث فما كان منهم الا أن يحرموه كل الامتيازات العلمية والمكانة الوظيفية ويحجموه في أحد أقسام الجامعة كأستاذ جامعي بعد أن كان مديرآ لهيئة البحث العلمي ورئيسآ لكثير من الانتدابات والبرامج العلمية.
وبالرغم من ذلك كان وطنيآ حد النخاع ورفض عروض مغرية في الهجرة وبلوغ مكانة رفيعة في أرقى الشركات الامريكية وعاش بمرارة في وطن كان منارة العلم والعلماء يومآ ما في العصور الغابرة.
ثم كانت صدمتنا أشد نحن أبنائه بأن هذا المجتمع يعاملنا بأشد قسوة مما عومل به أبينا بالانتقاص من أنتمائنا الوطني وهويتنا العراقية بسبب أن احد الوالدين لم يحمل الدم الازرق والجنسية العراقية، حتى لو كانت عربية فأن المصير نفسه وهو الاقصاء والظلم بقوانين ما أنزل الله بها من سلطان.
صرت أؤمن وهو رأي شخصي بأن الهجرة والعيش في بلاد متقدمة تحترم العقل والفكر والمواهب ومؤهله بأمتياز لصنع بشر منتج ومميز ومبدع هو المجتمع الذي يستحق أن أحترمه وأهبه ولائي ولقب الوطن.
هكذا وجدت كندا وطنآ آمنآ يستحق الحب والوفاء والتضحية برآ بوالد لم ينجب ولكنه ضرب أروع الامثلة في الاحسان والرعاية الانسانية والعطاء بلا حدود.
كتابك رائع وسيرتك أروع حق لك أن تخلدها وتفتخر بها.
شكرآ