الحرية ..

من أكثر الكلمات المستهلكة التي تداولها القادة والعامة والادباء والمفكرين ، وها انا ازيد الطين بلة وازيدها استهلاكآ.

الكل يريد التحرر والكل في شغل شاغل عن تلك الحرية المفقودة، ولاادري أن كان أحد من هؤلاء يعرف ما يبحث عنه!.

لكل انسان مفهومه الخاص بالحرية وما يبغيه من تلك الحرية في حياته.

لقد كنت لفترة طويلة متمردة جدآ على حرية مجتمعاتنا التي لاتتعدى الملصقات الجدارية وكتاب الوطنية في المرحلة الابتدائية، كنت أريد أن أتحرر من هذه الحرية البائسة وسجن الشرق وحصلت على ما أريد.

لاكتشف عن قرب وتجربة حرية الغرب!.

لم يأخذني الكثير من الوقت لاعلم بعد فترة قصيرة بأنه سجن أفظع، وتبين لاحقآ أن الحرية الغربية كذبة بشعة ومقنعة للهروب من المسؤولية والواقع والاستهتار بالاخلاق الاجتماعية والسيطرة على الاخرين وانتهاك حقوق الاخرين وأتباع حيواني للشهوات والرغبات الفردية.

أنها غابة ظاهرها القوانين والانظمة وباطنها سرطان مستفحل بكل كيانها الخرب.

الحرية ليست مجرد أفكار عشوائية، وآراء معارضة، وأزياء مخالفة، وقيادة سيارة، وانسان بلا دين ولا جذور، ولاحتى العيش بالمريخ.

الحرية بالضبط هو العيش بضوابط تحفظ الكرامة الانسانية وتكبح وحشيته المستترة.

الحرية بمعناها التجريدي لاوجود لها لاننا مخلوقين ولسنا بخالقين، حريتنا مرهونة بأمر الخالق وهذه الحياة التي بأيدينا مجرد حلم لابد أن نستفيق ونستيقظ منه يوما ما وبالتالي تتجسد حريتنا في نطاق ذلك الحلم الغير وردي.

كل واحد حر في مسرحه الشخصي، هناك المبدعين والمتفوقين والمشهورين وهناك المهرجين والفاشلين وذوي الاقنعة المكشوفة.

الحرية المطلقة الوحيدة التي نعيشها في تلك المسرحية هي الطفولة حيث تنعدم جميع الحواجز الفكرية والاختلافات الاثنية ولايحدنا شيء غير سلطة الابوين ونظراتهم، عدا ذلك فالكون كله مجرد ملعب فسيح لكل طفل وان كان في وسط الخرائب والركام.

الاغلبية يعتقد أن التحرر من الدين يصلح ان يكون عنوانآ للحرية.

بالتأكيد صحيح، أن لم يكن هناك أعتقاد بوجود خالق وبعث و حياة أخرى.

اما من كان على الجانب الاخر من السد فهو ليس حرآ، لان الارواح التي بداخلنا تتطلع بشوق وعطش الى التحرر، فنشعر على الدوام وكأن هناك شيء مفقود وكأننا مشدودين لشيء لانعرف كنهه.

لن تهدأ ولن ترتاح ولن تقر تلك الارواح حتى تتحرر من سجن الجسد وتكليف الحياة.

لاشيء يسعدها الا ذلك الرجوع الى حريتها وطبيعتها ووطنها الاول.

ولذلك كان الموت مكملا لهذه الحياة الى حياة اخرى اكثر تطورآ. نعم، لاننا حاليآ نعيش في الحياة الدنيا اي ادنى مستوى للحيوات التي تتغير وتتطور كلما انتقلنا الى الوجوه الاخرى المكملة لها، فهناك حياة البرزخ وحياة البعث وارفعها بالطبع الحياة الابدية بعد القيامة والحساب.

تأمل كلمات جبران خليل جبران في بوح نادر ورائع، وارجع لها كلما داهمتك الظنون عن هذه الحياة.

كتب جان كيتس: أحفروا على لوح قبري، هنا رفات من كتب اسمه بماء.

فكان تعليق جبران على ما كتبه كيتس:

أهكذا تمر بنا الليالي؟! أهكذا تندثر تحت أقدام الدهر؟ أهكذا تطوينا الأجيال ولا تحفظ لنا سوى اسم تخطه على صحفها بماء بدلاً من المداد؟

أينطفئ هذا النور وتزول المحبة وتضمحل الأماني؟؟

أيهدم الموت كل ما نبنيه ويذري الهواء كل ما نقوله ويخفي الظل كل ما نفعله؟

أهذه هي الحياة؟

هل هي ماض قد زال واختفت آثاره، وحاضر يركض لا حقاً بالماضي، ومستقبل لا معنى له إلا إذا ما مر وصار حاضراً أو ماضياً؟

أتزول جميع مسرات قلوبنا وأحزان أنفسنا دون أن نعلم نتائجها؟؟

أهكذا يكون الانسان مثل زبد البحر يطفو دقيقة على وجه الماء ثم تمر نسيمات الهواء فتطفئه ويصبح كأنه لم يكن ؟

لا لعمري، فحقيقة الحياة حياة.

حياة لم يكن ابتداؤها في الرحم ولن يكون منتهاها في اللحد .. وما هذه السنوات إلا لحظة من حياة أزلية أبدية.

هذا العمر الدنيوي مع كل ما فيه هو حلم بجانب اليقظة التي ندعوها الموت المخيف، حلم ولكن كل ما رأيناه وفعلناه فيه يبقى ببقاء الله.

فالأثير يحمل كل ابتسامه وكل تنهيدة تصعد من قلوبنا، ويحفظ صدى كل قبلة مصدرها المحبة، والملائكة تحصي كل دمعة يقطرها الحزن من مآقينا، وتعيد على مسمع الأرواح السابحة في فضاء اللانهاية كل أنشودة ابتدعها الفرح على شواعرنا.

هناك في العالم الاتي سنرى جميع تموجات شواعرنا واهتزازات قلوبنا، وهناك ندرك كنه ألوهيتنا التي نحتقرها الآن مدفوعين بعوامل القنوط.

الضلال الذي ندعوه اليوم ضعفاً سيظهر في الغد كحلقة كيانها واجب لتكملة سلسلة حياة ابن آدم.

الأتعاب التي لا نكافأ عليها الان ستحيا معنا وتذيع مجدنا.

الأرزاء التي نحتملها ستكون اكليلاً لفخرنا.

هذا، ولو علم “كيتس” ذلك البلبل الصداح أن أناشيده لم تزل تبث روح محبة الجمال في قلوب البشر لقال:

احفروا على لوح قبري:

هنا بقايا من كتب اسمه على أديم السماء بأحرف من نار.

فهمها جبران والذين أشتروا حريتهم وانعتقوا من عبودية الدنيا ووهم الحياة.

هؤلاء هم الاحرار وأصحاب الفكر والضمير.