سمارا نوري
ولد ابن خلدون بعد وفاة ابن تيمية بأربع سنوات. ويلاحظ من مقدمة ابن خلدون كثيرآ من الآراء التي جاء بها ابن تيمية والغزالي في نقد العقل والمنطق.
ويمكن القول إن ابن خلدون قد امتاز على الغزالي من حيث تأكيده على عجز العقول البشرية أن تفهم كيفية تأثير الاسباب في الحوادث وأن العقل البشري محدود وأنه غير قادر على النظر في حقائق الكون الا ضمن نطاق معين لايجوز أن يتعداه.
فالغزالي يعتقد كما رأينا في المقال السابق، أن العقل عاجز عن فهم الامور الالهية. أما ابن خلدون فيعتقد أن العقل قاصر عن فهم الامور الاجتماعية علاوة على الامور الالهية.
ويأتي ابن خلدون فيقول إن هناك من العلوم ما يخضع لمنطق ارسطو كعلم الهندسة والحساب ومنها ما لا يخضع له كعلم الاجتماع. ففيه رأيه أن المعرفة الاجتماعية يجب أن تكون مستمدة من المحسوس ولاصقة به. إن الحس عند ابن خلدون أصدق من القياس المنطقي والتجريد العقلي في فهم الامور الاجتماعية.
يبدو من هذا أن ابن خلدون كان يؤمن بوجود ثلاثة أنواع من المنطق:
المنطق الكشفي: هو الذي يصلح للبحث في الامور الالهية والروحية وما أشبه.
المنطق العقلاني: وهو الذي يصلح لبحث الامور القياسية كالهندسة والحساب وما أشبه
المنطق الحسي: وهو الذي يصلح لبحث الامور الاجتماعية والسياسية وما أشبه.
أستعمل ابن خلدون هذه الانواع المنطقية الثلاثة في حياته الفكرية. فهو يعترف اولا أنه كتب مقدمته تحت تأثير الالهام الآني كما يفعل المتصوفة، ثم نراه ثانيآ ينسق كثيرآ من فصول مقدمته على نمط ترتيب الادلة يشبه ما يفعله المناطقة وعلماء الهندسة، وهو أخيرآ يحاول استقراء معظم أفكاره من الواقع الاجتماعي المحسوس.
يجوز القول بأن ابن خلدون توصل الى رأيه الآنف الذكر بعد أن مزج بين رأي الغزالي ورأي ابن تيمية، وأنتج منهما رأيآ يلائم مزاجه الاجتماعي الواقعي.
ذكر ابن خلدون في مواضع مختلفة من مقدمته على عبارات فيها ذكر “المادة”. ومن المؤسف أن الدارسين لابن خلدون لم يعرها اهتمامآ كافيآ او انهم فهموها في ضوء المفهوم الحديث لمعنى المادة مع العلم أن ابن خلدون كان يقصد بالمادة “المحتوى” او “المضمون”.
وفي الفصل الذي خصصه في إبطال الفلسفة وإبطال منحليها، يذكر الاخطاء التي يتورط فيها المناطقة بأقيستهم الصورية وهي أحكام ذهنية عامة لاتتطابق مع حقيقة مضمون الموجودات الخارجية.
من مزايا ابن خلدون أنه ينظر في الامور باعتبار محتواها المادي المتلّبس بشبكة الحياة وليس باعتبار صورها المثالية المطلقة.
أن فكرة “العصبية” هي المحور الذي يدور حوله معظم المباحث الاجتماعية في مقدمة ابن خلدون، حيث تدور نظرية ابن خلدون حول منشأ الدولة او الحضارة على واقع التاريخ البشري بوجه عام، وعلى واقع التاريخ العربي بوجه خاص.
وللدكتور طه حسين رأي في ذلك، فهو يرى بما أن تلك النظرية تدور حول موضوع الدولة، فأنه لايجوز منح ابن خلدون لقب عالم اجتماعي لان موضوع الدولة أضيق من أن يصلح موضوعآ لعلم الاجتماع.
الا أن نظرية ابن خلدون تعدت مفهوم الدولة الى موضوع أوسع نطاقآ وأكثر شمولآ من موضوع العصبية او موضوع الدولة، أنها تركز على الصراع بين البداوة والحضارة عندما نظر في أحوال الناس في زمانه فرآهم مستقطبين على فئتين لا ثالث لهما هما البدو والحضر.
ثم وجد أن صفات إحداهما مضادة لصفات الثانية من جهة، وأن الفئتين في تفاعل مستمر من الجهة الاخرى.
هذا الصراع بين الطرفين هو الاساس في نشوء الدولة او الحضارة.
وبها قد نستطيع أن نفهم لماذا ظهرت الدول الكبيرة في العراق ومصر قبل أن تظهر في غيرهما من مناطق العالم الاخرى، ولماذا كانت هذه المنطقة مركز الحضارة الاولى في تاريخ العالم.
ففي هذه المنطقة كان الصراع بين البداوة والحضارة على أشدّه، وقد حدثنا التاريخ عن الموجات المتتابعة التي كانت تنبعث من الصحراء في هذه المنطقة فتستولي على الأمصار المجاورة وتؤسس فيها الدول الكبيرة، ومن شأن هذه الدول الكبيرة أنها تؤدي الى أنماء الحضارة بمقدار ما تؤدي الى إشاعة الظلم والاستغلال الاقتصادي. فالامران مترادفان او لعلهما وجهان لشيء واحد.
إن الضرائب التي كانت تجبيها الدولة من رعاياها تجعل الطبقة الحاكمة ذات فراغ وترف ومال وفير، ولا بد من إنفاق قسط كبير من هذا المال في تشجيع الفن والعلم والصناعة. عند هذا تظهر طبقة من الصناع والعلماء والفنانين يعملون لاشباع شهوات الحكام المترفين، ولولا هذا ما نشأ أولئك.
الحضارة لا تزدهر في مجتمع بدائي لا دولة فيه، في هذا المجتمع لا يوجد حاكم مسيطر بل يوجد مكانه رئيس يتبعه ويطيعه الافراد طوعآ واختيارآ، ولهذا لا يستطيع الرئيس في مثل هذا المجتمع أن يستغل اتباعه من جهة، او يقسرهم على إنتاج معالم الحضارة من الجهة الاخرى.
ولا تكاد تظهر الدولة في المجتمع حتى يظهر معها الاستغلال وازدهار الحضارة في آن واحد.
الدولة إذن ذات محاسن ومساويء في الوقت ذاته، ونحن اليوم اذ ننظر الى الاثار الباذخة التي تركتها الحضارات القديمة، كالاهرام والقصور والثماثيل والمعابد، أنما وراءها يكمن الظلم الاجتماعي الشنيع، حيث لم يقم الاثر الواحد منها الا على أساس من الاستعباد وضرب السياط ونهب الاموال.
فطن ابن خلدون لذلك وتطرق في بحثه، فكان يجري كل شيء حسب منطقه الجديد الذي يرى في كل شيء جهتين، الحسن والقبيح. وقد ميزّ بين الرئيس المتبوع والملك المسيطر، وكيف أن الاول يستمد رئاسته من طاعة قومه والتفافهم حوله، أما الثاني فأنه يقوم على التغلب والحكم بالقهر.
يقول ابن خلدون إن الرئيس المتبوع لا يظهر الا في البداوة قبل تأسيس الدولة، أما بعد تأسيسها فيصبح الناس فيها طبقات يعلو بعضها على بعض، ويكون الملوك في أعلى الطبقات وبهذا يتمّ التعاون بين الناس في إنتاج حضارة.
يشير ابن خلدون الى المظالم التي تنتج من هذا النظام الطبقي، ولكنها برأيه لا بد منها، اذ هي نتاج عرضي لما يحصل بين الناس من إكراه على التعاون في سبيل الانتاج الحضاري.
الظاهر أن ابن خلدون يختلف بعض الاختلاف عن علماء الاجتماع الحديث حول محاسن الدولة ومساوئها، فهم يرون أن الاصل في طبيعة الدولة هي الغلبة والاستغلال، أما ابن خلدون فيذهب الى العكس من ذلك، إذ هو يرى أن التعاون في سبيل الانتاج الحضاري هو الأصل في طبيعة الدولة ثم تأتي المظالم من بعد ذلك عرضآ.
يأتي رأيه هذا من إيمانه في حكمة الله في خلق الناس والدولة، فالله يريد الخير أولا، أما الشر فهو داخل بالعرض كسائر الشرور الداخلة في القضاء الإلهي ” لانه قد لا يتم وجود الخير الكثير الا بما ينطوي عليه من الشر اليسير، وهذا معنى وقوع المظالم في الخليقة، فتفهم”.
إن النظرية الخلدونية قد تعطينا صورة صادقة لتاريخنا الاسلامي العربي، لاسيما الفترة التي أعتدنا أن نطلق عليها أسم “العصر الذهبي”، فهذه الفترة شهدت ظهور دول كبرى فيها شيء كثير من الظلم والاستغلال الاقتصادي، وفيها كثير من إبداع عظيم في الفن والعلم والصناعة.
نحن اليوم ندرس تاريخنا لنستفيد منه ونعتبر به فلا نغالي في التأكيد على محاسنه او مساوئه.
أن الدولة الحديثة تختلف في نشأتها وطبيعتها عن الدولة القديمة التي حدثنا عنها ابن خلدون.
حيث تنشأ الدولة الحديثة على اساس الديمقراطية بعد سلسلة من الثورات والانتفاضات الشعبية، ومن الممكن القول بأن الدولة الحديثة تجمع بين إنتاج الحضارة وإشاعة العدل الاجتماعي في وقت واحد.
وأضيف هنا الى رأي الوردي بأن هذا قد يكون صحيحآ في نطاق الدولة الواحدة و الدول ذات المصالح المشتركة ولكنها هذه الدول لم تزدهر الا على حساب استعباد دول اخرى كما هو واضح اليوم في الحضارة الاوربية التي قامت على احتلال ونهب ثروات الدول في مختلف بقاع العالم من اجل أنجاح حضارتها وقيام ثورتها الصناعية وازدهار أقتصادها.
إن النزعة الشعبية التي تسيطر الآن على الاذهان لا تسمح لطبقة حاكمة أن تنعم بقصورها وجواريها على حساب الملايين من الناس.
كما أنها لا تسمح لدولة او حضارة واحدة بأبادة الشعوب واستغلال ثرواتها وتدمير ثقافتها.
المصدر: كتاب منطق ابن خلدون – د. علي الوردي