قرطبة … غرناطة … بلنسية … شاطبة … مرسية … أشبيلية … جيان … طليطلة، أجمل مدن الأندلس وأشهرها، فتحها المسملون ببضعة آلاف بقيادة القائد طارق بن زياد عام 711م حتى 1492م، ثم فتحوا بعدها بوابات العلم ومنارات الهدى التي أنارت العالم، وقتها فقط عرفت اوربا معنى العلم والفن، والثقافة والرقي!.
في رحلة ارتجالية وبدون تخطيط مسبق قررنا وعائلة صديقة التوجه الى خمس مدن في أسبانيا لثمانية أيام في عطلة عيد الاضحى، أشبيلية، قرطبة، غرناطة، برشلونة، ثم مدريد بالتتابع.
وصلنا مدريد وفورآ الى محطة القطار متوجهين الى أشبيلة .. محطتنا الاولى في تلك الرحلة،
عند الوصول قمنا بتأجير سيارة من مكتب في المحطة، وكانت عملية قيصرية ومعقدة للغاية تأكدت من خلالها أننا في دولة عربية.
تبآ للمستحيل .. كان الوقت ليلآ عندما وصلنا ولكن الحماس والفضول لم يعطينا الفرصة لنرتاح من عناء السفر، توجهنا الى موظفة الاستقبال في الفندق وأنهلنا عليها بوابل من الاسئلة .. الخرائط، المدينة، شبكة المترو، الاماكن الاثرية والسياحية، المطاعم، مع أني جهزت مسبقآ قائمة بأفضل الاماكن التي يجب زيارتها في كل مدينة.
توجهنا الى مطعم فلكلوري في المنطقة المجاورة كما نصحونا، كان في الجو شيء من برد منعش، فوجئنا بالاشارات الضوئية التي تصدر أصواتآ كتغريد العصافير. يبدأ التغريد عندما تتحول أشارة عبور المشاة الى اللون الأخضر .. في كل دولة أوربية هناك علامة فارقة لاتتكرر في بقية الدول وهذه أحداها في أسبانيا التي تعتبر في أدنى قائمة الدول المتقدمة مع ضخامة أرثها التاريخي الا أنها لم تحرز تقدمآ في عصر النهضة كمثيلاتها الاوربية وبقي وضعها الاقتصادي سىء، وقد كان تأثير الأزمة المالية العالمية مؤخرآ شديدآ عليها لولا أن تداركتها بقية دول الاتحاد الاوربي.
التغريدات ليست للتسلية وأضفاء موسيقى شاعرية على المكان، ولكنها ثقافة ووعي بوجود فئة من ذوي الأحتياجات الخاصة والتأكيد على أفضلية الطريق للمارة والحرص على سلامتهم بطريقة رومانسية رقيقة.
بدأت نظرتي تتغير عن أسبانيا ابتداءآ من هذه التغريدات، توقعت بلدآ لايختلف كثيرآ عن بلداننا العربية، زحمة وفوضى وأبواق سيارت وعالم وناس تتحرك بصورة عشوائية في كل أتجاه، الصريخ أستثنائي وشكلها منتقلة بالوراثة الجينية من الاصل العربي، الاسبان ماشين يأذنون بالناس بكل مكان وخصوصآ في المطاعم والاماكن المغلقة، ولكن بقية المظاهر كانت حضارية وملفتة للنظر.
في ذلك الشارع الذي توجهنا اليه كان الأمر أكثر أبهارآ في الأبنية ذات الطابع الاسلامي المميز، والمطاعم المرصعة بلوحات الفسيفساء الشرقية وكلها تحكي قصص التاريخ الاندلسي بفخر وأعتزاز وكأنها أرث أجدادهم.
وكيف لايكون وقد حكم المسلمون الاندلس ثمانية قرون، شهد العالم خلالها حضارة ورقيآ لامثيل لها، تمثلت بفن العمارة ذات الطابع الاسلامي المحض وتشييد المساجد والحدائق الخلابة والبساتين العامرة وبناء النافورات المزخرفة والينابيع والعيون المائية وأزدهار فن الفلاحة والري والنبات بشكل خيالي.
في المطعم أستمتعنا بأستعراض مصغر لعازف كيتار ومغنية وراقصة أسبانية في كشكة بديعة من الاسود والاحمر، ترقص الفلامنكو على ايقاع الموسيقى الاسبانية الصاخبة وتصفيق المغنية العالي، وبالرغم من كل هذا الصخب والرقص العنيف فأن الراقصة وحتى المغنية لم تبتسم طوال الفقرة وكانت تعابير وجوههم جدية للغاية وكأنهم في مؤتمر قمة جنيف.
تعتبر كاتدرائية أشبيلية من أروع المعالم في أشبيلة بعد أن كانت مسجدآ في السابق، مزخرف بشكل مسرف وقد أستخدمت نفس أعمدة المسجد وتحولت المئذنة الى برج جرس الكنيسة.
تتميز أشبيلية بأحيائها القديمة ويطلق عليها الحي العربي اليهودي عندما كان المسلمون واليهود يتعايشون في حي واحد بأسم الأخوة. وهي أحياء في منتهى الروعة تبعث الشعور وكأنك في القرون الوسطى حيث المطاعم الصغيرة والمقاهي والمحلات الشعبية ومحلات الهدايا المتداخلة مع بعضها في الشعب الضيقة والأزقة التراثية.
ولايخفى على الزائر أنتشار أشجار البرتقال والليمون والرمان وشجر الأرز المتدلي والنخيل الشامخات، تتعانق فيما بينها ومحاطة بالأسوار والقلاع المسننة لتجبر المرء على الأعتقاد بأنه في جنة حقيقية.
قرطبة كانت وجهتنا التالية بالسيارة، أستمتعنا خلالها بالمناظر الخلابة للطريق الخارجي بين المدينتين، وأيضآ لنستطيع ان نتصرف بحرية داخل المدن نظرآ لنشاطنا الزائد وأنفتاح شهيتنا السياحية.
تتميز قرطبة ببساتينها الخلابة وبيوتها الفارهة وشوارعها العريضة، كانت قرطبة اكبر مدينة في العالم سكانآ آنذاك ولم يكن هناك مدينة أكبر منها الا بغداد .. وكان فيها لوحدها ثلاثة الآف مسجد!.
الفندق كان خرافيآ بحدائقه الخلابة والتلال والسهول الخضراء المحيطة به، ثم المنور الداخلي المملوء بأشجار البرتقال والحمضيات والنباتات المتسلقة على طراز البيوت السورية القديمة.
وأجمل معالمها مسجد “مسكيتا”، الذي صمم المسجد النبوي الحالي بألهام من عمارته، تسحر الزائر وتترك أنطباعآ مؤثرآ بأعمدته وأقواسه والزخارف التي تكسو السقوف والآيات القرآنية التي تزين الجدران ويعتبر أروع ماوصل اليه فن العمارة في عهد خلفاء الاندلس.
توجهت السيارة بنا بعدها الى غرناطة وماأدراك ماغرناطة.
الاندلس هي غرناطة وغرناطة هي قصر الحمرا.
بني هذا القصر على هضبة تطل على مدينة غرناطة، وهو أحد أروع أمثلة فن العمارة الاسلامية التي أشتهرت على نطاق عالمي حتى يومنا هذا.
تعود تسميته بالحمرا الى بني الأحمر الذين كانوا يحكمون غرناطة، أو يقال بسبب تربتها الحمراء التي تمناز بها الهضبة.
وتعتبر مدينة مصغرة على قمة تل، قسمها العسكري يضم الأسوار والأبراج التي جعلت القصر حصينآ مستعصيآ على الغزاة لمائتين وخمسين عامآ.
أما قسمها المدني، ففيه القصر الملكي ومحلقاته، وقسم للمستخدمين. شيدت جدران القصر كسجادة مزخرفة بأشكال هندسية رقيقة وكتابات قرآنية وأدعية وأشعار، وتحيط بها زخارف من الجص والبلاط الملون ذات النقوش الهندسية محفور عليها كلمة “لاغالب الا الله”.
جمع هذا المعلم الاندلسي الشهير بين التحصينات الدفاعية وبين روعة القاعات والصحون وأشغال الجص الفريدة والقباب المرصعه وهندسة البساتين.
وقد بكى حاكمها أبو عبد الله محمد الحادي عشر عندما غادر القصر مع عائلته الى المنفى بعد دخول الملك فرديناندو وايزابيلا ، فقالت له والدته (عائشة الحرة) عندما سمعا صهيل الخيل فوق الهضبة وهي ترى دموع ولدها مقولتها المأثورة: “نعم .. أبكي.. أبكي كالنساء ملكآ ضاع .. لم تحافظ عليه كالرجال”.
وكانت هذه الدموع آخر عهد المسلمين بالاندلس .. وآخر عهد أبي عبد الله نفسه بهذه البلاد.
بلاد الفردوس المفقود…
ولازالت الدموع جارية على آثار واطلال المسلمين .. دول وشعوب وثروات وعادات وهوية ولغة وملامح وجينات كلها نحرت وأنتحرت في سبيل الحرية والديمقراطية.
لم نكتفي بعرض الفلامنكو البسيط، وكانت أمنية صديقتي ان تشاهد عرضآ حقيقيآ في المسرح، أطلقنا العنان لأرجلنا في نزهة طويلة في شوارع وحدائق مدينة غرناطة بيوم مشمس مليء بالبهجة والسرور، وبعد أن أخذ منا التعب مأخذآ قررنا التوجه الى اقرب مطعم لبعض الهدنة ومليء خزان المعدة بالوقود، لكن ليس قبل أن نشتري تذاكر الفلامنكو .. أخيرآ عثرنا على كشك صغير على ناصية الشارع لبيع الالعاب والتحف والهدايا المحلية وايضآ التذاكربسعر ممتاز كما قالت البائعة وهي تستعرض مواهبها الاندلسية في البيع، واعتقد ان الصفقة كانت رائعة بالنسبة لها والله أعلم.
مشينا اكثر من ساعتين بعد الغداء لكي نصل الى المسرح وانفاسنا مقطوعة، لكنها مالبثت ان هدأت واستقرت عندما بدأ العرض.
مجموعة كبيرة من الجميلات الاسبانيات المهجنات بالدماء العربية الاصيلة، بأثواب زاهية ومكشكشة صممت لاجسام ممشوقة كأنها غصن البان، يرافق كل حسناء شاب وسيم بشعر طويل يلمع معقوص الى الخلف بملابس سوداء.
حقيقة لوحة فنية فاتنه لاينقصها الا ربع أبتسامة على وجوههم السمراء .. أعتقد ان هذه التعبيرات العصبية والجادة هي من لوازم الرقصة لو أننا كنا نفهم مايقولون .. والظاهر ان لكل رقصة قصة غاية في التراجيديا التي تظهر جليآ على وجوههم والتصفيق العالي بأيديهم وكعوب الأحذية كأنها الغضب الساطع.
توجهنا بعد ذلك الى برشلونه قبل تسليم السيارة الى مكتب التأجير ورحلنا بالقطار من برشلونة الى مدريد رجوعآ الى القواعد الاصلية سالمين غانمين بعد أن ركضنا وهرولنا بأقصى سرعة يمكن لارجلنا ان تنطلق بها للالتحاق بالطائرة التي اغلقت أبوابها والمتوجهة الى أبوظبي.
ولكني كنت قد وقعت في غرام غرناطة وتركت قلبي هناك مع الاجداد في الاندلس.