لم تكن الكيمياء مادتي المفضلة في الثانوية، فقد كنت أعشق الرياضيات وأستمتع بمادة الاحياء وأقل علاماتي كانت في اللغة العربية بالرغم من أني كنت أستمتع بفقرة الانشاء لدرجة الشغف وأحصل على درجة كاملة في كل موضوع، الامر الذي لم يكن مألوفآ بين الطلاب.
أبدآ لم أعير أنتباهآ لميولي وأهتماماتي الفطرية ولم أمحص التفكير في نقاط ضعفي وقوتي وقد أثر ذلك سلبآ على أختياراتي الجامعية لدراسة التخصص الذي يلائم فكري وموهبتي وطبيعتي الانسانية.
المعدل يقرر ويحكم ويجب أن لا أمتهنه بأختصاص أقل من مرتبته فكل شيء يخضع لمعايير الاعراف والموروثات الاجتماعية والالقاب العلمية.
بالتالي فالخيارات محدودة ولا مجال للحيرة عند المتفوقين وأصحاب المعدلات العالية من طلاب العلمي فأما الطب او الهندسة.
بقية الشهادات غير معترف بها من قبل المجتمع وقبلهم الاهل والمعارف ولاينظر اليها بفخر وأكبار.
لو عاد بي التاريخ الى ذلك اليوم لنسفت تلك الاعراف ورميت ذلك المعدل بأقرب سلة مهملات وعشت أسعد سنين حياتي في دراسة الادب والفلسفة والانسانيات التي أنتمي لها بشدة وتشكل محور حياتي وشخصيتي المختلفة.
كنت أدرس وأجتهد لاجل العلامات ولاجل أبي، لا يهمني سوى رأيه ولا تسعدني الا سعادته.
في السنة الاخيرة من الثانوية وهي سنة مصيرية يُكرم فيها المرء او يهان بدون حق ولا أنصاف حيث يعتمد مصير الطالب ومستقبله الجامعي بالكامل على أمتحان واحد نهائي هو أمتحان البكلوريا الوزاري بغض النظر عن تحصيل السنوات السابقة او حتى أدنى أعتبار لمعدل السنة الاخيرة ما قبل الامتحان النهائي.
بسبب هذا الضغط الهائل والتوتر العصبي الذي يمر فيه أغلب الطلاب يفشل الكثير من المتفوقين بنتيجة ظالمة وغير متوقعة بتاتآ.
في تلك السنة جاءت الى مدرستي مُدّرسة جديدة في مادة الكيمياء، لم يكن مريحآ البدء مع مُدّرسة جديدة بالذات في السنة الاخيرة ولكن ما باليد حيلة.
للوهلة الاولى أستطعنا أن نميز لهجتها الغير بغدادية ثم أخبرتنا عند التعريف بنفسها بأنها من البصرة.
في الغالب يشتهر أهل البصرة بطيبتهم الفائفة وعشرتهم الودودة وكرمهم الاخلاقي.
وكانت هي كذلك.
جدية للغاية يتلخص في شخصها كل معاني الاخلاص والتفاني وحب العلم والوطن، تستميت في أداء واجبها وشرح مادتها بأسلوب حرفي وطاقة هائلة.
تكتب كل ماتقول على اللوحة وكان خط يدها غاية في الجمال لدرجة كانت تشدني أكثر من المادة نفسها.
لايخلو درسها من الضحك والطرائف والمداعبات الجميلة بقدرة على أسترجاع الهدوء والانضباط بسلاسة حال العودة الى المادة.
صرت أتطلع لحصتها وأحزن لغيابها وتعلقت بها تعلقآ روحيآ لم أعهده قبل مع أي مُدّرسة أخرى.
بعد أن حاز أبي على محور أهتمامي لسنين طويلة، أستطاعت هي أن تجذب أنتباهي ولكن بما يخص مادتها فقط.
كان فرحها عظيمآ بأي علامة مميزة كأنها درجتها الشخصية وبسبب أعجابي وتقديري وحبي لها فقد تفوقت تفوقآ ليس له نظير في مادة الكيمياء.
كنت أطير من الفرح عندما أرى السرور والفخر في عينيها كأنه أعظم هديه لها وصار الحصول على درجة كاملة في كل أمتحاناتها أمر مسلمآ به وممتعآ للغاية.
أهم شروط التفوق والنجاح هو الايمان بالانسان واستثمار طاقته البشرية فالانسان يحتاج لمن يشجعه ويعلمه ويكون قدوة له ليتجاوز مرحلة النجاح الى مراحل أعلى في الابداع والتميز الخلاق.
هذا هو دور كل مربي ومعلم ومستشار.
أقترب الامتحان النهائي ودخلت بمعدل كامل في مادة الكيمياء وكنت أعول عليه كثيرآ أذا ما خاننني الحظ في بقية المواد الاخرى لاني فعلا كنت قد تمكنت من المادة بأعلى مستوياتها.
أجتزت أغلب الامتحانات بتفوق وتيسير من الله وكان أختبار الكيمياء في الاخر.
كنت مرهقة نفسيآ وجسديآ وبنفس الوقت متحمسة جدآ وسعيدة للغاية حيث أعتبرت نفسي قد أنتهيت من البكلوريا الى غير رجعة.
ضمنت المعدل الكامل بدون أدنى شك وأنزاح عني شبح الخوف والقلق الذي كان يلازمني في بقية الاختبارات.
خرجت من أمتحان الكيمياء ووجدتها تنتظر بأبتسامتها وحرصها لمعرفة أجوبة كل طالباتها وكأنه تقييمها الشخصي.
بشرتها ووعدتها بأني لن أخيب ظنها وسأحصل على المعدل الذي دخلت به بلا نقصان.
كانت صدمتي قاسية لاحقآ عندما أكتشفت بأني نسيت أحد فروع الاسئلة في ذلك الامتحان.
قامت قيامتي ولم يستطع حتى أبي أن يهدأ من روعي وحزني، خسرت سبعة علامات في سؤال أعرف أجابته تمام المعرفة ولكني لم أره حتى بعد المراجعة قبل تسليم أوراقي.
ضربة موجعة للغاية حرمتني من الفرح بالتخرج وأنتهاء كابوس البكلوريا وحرمتني الاحتفال بمعدلي العالي بالرغم من أخفاقي في الكيمياء.
كنت خائفة ومحرجة للغاية يوم أستلام نتيجة الاختبارات.
أردت أن أسلم عليها وأعتذر لها، رأيتها من بعيد وعندما لمحتني أختفت أبتسامتها ورفضت أن تسلم عليّ.
لم تشفع لي دموعي فقد كانت خيبتها بي كبيرة.
تدخلين بمعدل 100 وتخرجين ب 94!! لن أسامحك هذا ما قالته وأدارت ظهرها وأختفت.
الامر بالنسبة لي ولها كان أكبر بكثير من مجرد علامة وتقييم، وما يشفع لي أني لم أخفق لاني لم أعرف الاجابة او أني تركت السؤال عمدآ واستهتارآ ولكن قدر الله وما شاء فعل.
كان هذا نصيبي من ذلك الامتحان الذي لن أنساه مدى حياتي.
والسبب هي .. لاني ابدآ لن أنساها.